لبنان جحيمٌ على الأرض. هذا ما يتّفق عليه الآن مواطنوه والمقيمون فيه، ومن يتابعون أخباره من بعيد. لكنّ الجحيم درجات. هذه ليست بلاغة، وإلا ما كانت طالبتان جامعيتان ستشعران هذه الأيام بأنّهما أكثر أماناً في بيروت من عاصمة بلدهما. الجحيم درجات، وجحيم يلدا نكَاه وصدّيقة شوكوري اسمه طالبان.
وصلت يلدا نكَاه (19 عاماً)، وصدّيقة شوكوري (21 عاماً)، من كابول إلى العاصمة اللبنانية قبل ثلاثة أشهر. إلى الآن، لم تسنح لهما الفرصة لاستكشافها، رغم أنّهما تقيمان في حرم "الجامعة الأميركية في بيروت"، إذْ لديهما منحة مموّلة من الحكومة الأميركية، ضمن برنامج "التعليم من أجل القيادة في الأزمات"، جزءٌ منه منحة أكاديمية، وجزءٌ آخر استثمار هادف في مستقبل المرأة في أفغانستان.
ربما يقول البعض إنّ يلدا وصدّيقة محظوظتان هذه الأيام، فهما بعيدتان عن حركة طالبان آلاف الكيلومترات. لكنْ، إنْ كان الحاضر آمناً، إلى حدّ ما، فكيف سيكون المستقبل؟ تسأل الطالبتان نفسيهما، في محلّ إقامتهما، حيث تقضيان النهار في مطالعة أخبار وطنهما، والاطمئنان على عائلتيهما: هل سنتمكّن من العودة إلى أفغانستان لخدمة شعبنا؟ ما مصيرنا إنْ عُدنا؟ ماذا سيحلّ بنا بعد التخرّج؟ ماذا عن صديقاتنا والجارات والقريبات، وجميع نساء أفغانستان، اللواتي جاهدن في السنوات العشرين الماضية لنيل أبسط الحقوق، وأوّلها حقّ التعلّم؟
ثلثا السكان في أفغانستان دون 30 عاماً، ما يعني أنّ معظم النساء في البلد حالياً لم يَعِشْ تحت حكم طالبان. معظمهنّ لم يَعِشْ تجربة المنع من التعلّم والعمل، ومن حظر الخروج إلّا برفقة محرم. لكنهنّ سمعن قصصاً كافية لبثّ الرعب في قلوبهنّ. كما أنّه، في السنوات الماضية، لم تتوقّف حركة طالبان عن ممارساتها القمعية في المناطق التي تسيطر عليها، أو تتمتّع بالنفوذ فيها، فتُهدّد النساء، وتهاجمهنّ في الحياة العامة، وكذلك النساء العاديات، اللواتي يعملن خارج بيوتهنّ.
ثلثا السكان في أفغانستان دون 30 عاماً، ما يعني أنّ معظم النساء في البلد حالياً لم يَعِشْ تحت حكم طالبان
عندما حكمت طالبان، فرضت رؤيتها المتطرّفة للشريعة الإسلامية، فمنعت النساء من العمل، ومن الخروج من دون مرافقة محرم، كما منعت تعليم البنات. من آثار هذه السياسات، أنّ النساء الأفغانيات أصبحن يعانين من أدنى متوسّط عمر مُتوقّع عند الولادة، وأدنى معدّلات معرفة القراءة والكتابة، وأعلى معدّل وفيات الأطفال في آسيا، وزيادة كبيرة في التسوّل والدعارة عمّا كان عليه الوضع قبل صعود طالبان، وفقاً لتقرير "منظمة الأمم المتحدة للأطفال" (يونيسف)، عام 1999.
رغم زعم الحركة الآن أنّها أصحبت أكثر انفتاحاً واعتدالاً، وأنّها ستحترم حقوق النساء، لا تعكس التقارير الميدانية هذه الادّعاءات: صحافيات وموظّفات في المصارف تحدّثن عن منعهنّ من العمل. فنانات وقاضيات وعاملات في الشأن العام يختبئن، أو يهربن إلى خارج البلد. سابقاً، كان هناك رهان كبير على تحوّل الحركة إلى الاعتدال أكثر، بعد سيطرتها على كابول ومركز الحكم في أفغانستان. لكنّ هذا الرهان كان خاسراً في نهاية تسعينيات القرن الـ20، ومطلع الألفية الجديدة. ليس هناك ما يدلّ الآن على نجاحه.
بالنسبة إلى صدّيقة، التي تُجهّز نفسها لدراسة إدارة الإعمال، الخطر مُضاعف. هي ليست فقط أفغانية تُصرّ على حقّها في التعلّم والعمل، بل أيضاً ابنة مجتمع الهزارة، الذي يتبع المذهب الشيعي. اضطُهدت أقلية الهزارة بوحشية عندما كانت طالبان في السلطة بين عامي 1996 و2001، بما في ذلك مذبحة قُدِّر عدد ضحاياها بنحو ألفي شخص، عام 1998. يشعر عديدون من الهزارة، الذين يُقدّر عددهم بما بين 10 و20 في المائة من سكّان البلد، بالقلق، حين يتذكّرون الماضي، رغم تأكيدات قيادة طالبان بأنّ الحركة تغيّرت.
اضطُهدت أقلية الهزارة بوحشية عندما كانت طالبان في السلطة بين عامي 1996 و2001
لكنْ، مع اجتياح طالبان لأفغانستان، هذا الصيف، قبل هجومها الخاطف الذي بلغ ذروته بسقوط كابول، وجد تحقيق أجرته "منظمة العفو الدولية" أدلة على مقتل تسعة رجال من الهزارة، ما أثار مخاوف من إراقة مزيدٍ من الدماء. ذكر التقرير أنّ "باحثين ميدانيين تحدّثوا إلى شهود عيان، قدّموا روايات مروّعة عن عمليات القتل"، التي وقعت أوائل يوليو/ تموز، في محافظة غزنه: "قُتل ستة رجال بالرصاص، وتعرّض ثلاثة للتعذيب حتى الموت، بينهم رجل خُنق بوشاحه، وقُطّعت عضلات ذراعه".
قال أحد الشهود إنّ القرويين سألوا المقاتلين عن سبب ارتكابهم مثل هذه الوحشية ضد الناس، فكانت إجابة أحد المقاتلين أنّه "في وقت النزاع، يموت الجميع". وقعت عمليات القتل قبل أنْ تصدر طالبان عفواً شاملاً في كابول هذا الأسبوع، واعدةً بعدم ارتكاب أعمال قتل انتقامية، وبتوفير السلامة لجميع الأفغان. يصعب معرفة ما يحدث في معظم أنحاء البلد، لأنّ خدمة الهاتف المحمول مقطوعة في أماكن عدة، كما هرب صحافيون عديدون، واختبأ آخرون. لكنْ، لم ترد تقارير عن هجمات واسعة النطاق على الهزارة منذ يوم الأحد الماضي. يوم الخميس، وفّر جنود طالبان الأمن في كابول، مع إحياء رجال الهزارة ذكرى عاشوراء، وهذا يوم شيعي مُقدّس.
تقول صدّيقة إنّها لم تشعر يوماً بالأمان. هي من محافظة غزنه. لم تكن تعلم، هي وأفراد عائلتها، إنْ كانوا سيعودون إلى منزلهم عند مغادرته صباحاً أو لا، قبل انتقالهم ـ في السنوات الماضية ـ إلى كابول.
تُشير صدّيقة إلى أنّ "السبب الوحيد الذي دفع أهلي إلى قبول مغادرتي البلد للدراسة، خوفهم من طالبان. حين كنتُ أحدِّث والدتي عن السفر للدراسة قبل 5 سنوات، كانت تُعارض بشدّة. منذ العام الماضي، تغيّر الوضع". من طفولتها، تتذكّر مشاويرها بين كابول وغزنه، ومرورها على نقطة تفتيش تابعة لطالبان. تصف الدقائق التي لا تتجاوز الخمس عند هذه النقطة بـ"فيلم رعب".
يلدا تتجهّز لدراسة العلوم السياسية في "الجامعة الأميركية في بيروت". تقول لـ"العربي الجديد"، إنّها لا تثق بتصريحات مسؤولي طالبان بشأن تغيّر مقاربة الحركة للحقوق والحريات في البلد. تُشدّد على قلقها على جميع الأفغانيات. تسأل: "ما الذي تعنيه طالبان في حديثها عن العفو والسلام؟ هل يعني السلام أنّ الحرب وأيام التفجيرات انتهت؟ هذا ليس سلاماً، ولن أقبل به. يجب الالتزام بحماية النساء والفتيات، ومنحهنّ حقوقهنّ. قد تقول طالبان إنّها لن تمنع تعلّم الفتيات. لكنّها بدأت أصلاً بوضع العراقيل، حين تتحدّث عن فصل الذكور عن الإناث. نعرف جميعنا معنى ذلك، وسط الأزمة الاقتصادية، وقلّة عدد الفتيات في المدارس مقارنة بالذكور".
يلدا نكَاه: لا يُمكننا النضال من أجل حقّ واحدٍ عشرات المرات
تشير يلدا: "كنّا ندرس من أجل بلدنا. لكنّ الجميع يائسون الآن في أفغانستان وخارجها. دفعونا مُجدّداً إلى اليأس. صديقاتي في البلد يسألن أنفسهنّ الآن: لماذا نتعلّم، وما الفرق، بعد سيطرة طالبان؟ إنهن مُحقّات في مخاوفهن هذه. مع ذلك، علينا نحن الجيل الجديد أنْ نكون أقوياء كفاية كي لا نستسلم. العلم سلاحنا". وتؤكّد أنه "علينا أنْ نكون صادقات مع أنفسنا، وأن نأخذ أدوارنا على محمل الجدية. لا يمكن أنْ تُعطى النساء أدواراً رمزية كي تُصدّر طالبان صورة مضيئة عن نفسها إلى العالم".
تضيف: "لا يُمكننا النضال من أجل حقّ واحدٍ عشرات المرات. لا يمكنهم أنْ يثبّتونا مكاننا ويعيدونا إلى الموقع نفسه كلّ مرة". وتستعير من حملةٍ، عملت عليها حين كانت في بلدها: "نساء أفغانستان لن يعدن إلى الوراء".