يتجوّل المُتفرّج بين منصّات تُقدّم 30 ألف ساعة مُشاهدة: كيف يعثر على تحفة فنية من دون أن يتعثّر بعنفٍ وجنسٍ في لائحة الأكثر مُشاهدة؟ يتطلّب الأمر جُهداً أشبه بعمل مدير فني يختار أفلاماً لمهرجان.
من تلك التُحف، وثائقيّ عن مخرج ومعلّم مسرحي بنى خبرة نصف قرن من تكوين الممثّلين ميدانياً. أدار مشتلاً إبداعياً لوقتٍ طويل في قلب نيويورك. الوثائقي بعنوان It Takes A Lunatic، أخرجه بيلي ليونس وكيم فيرّارو وساث إسْلر عام 2019 (نتفليكس)، عن وين هاندمان (1922 ـ 2020)، العبقريّ الذي كره تدريس قواعد التمثيل في معهد متخصّص، فترك المعهد للعمل مباشرة على الخشبة. أنجز 128 مسرحية، وقدّم آلاف العروض في 40 عاماً.
معلّم درّب ممثلين كبارا، ودفعهم إلى التردّد على المسارح مرّة كلّ يومين. استقبل في مسرحه داستن هوفمان وجون مالكوفيتش وسام شيبرد وريتشارد غير وسيدني بولاك وسوزان لوسي، وغيرهم. مجنونٌ أسّس جمعية غير ربحية، وتعاون مع راهبٍ، وقام بمحاولات لدمج المسرح بالكنيسة، ثم حصل على كنيسة فحوّلها إلى مسرح، لأنّ الذين يذهبون إلى المسرح في نيويورك أكثر من الذين يذهبون إلى الكنيسة. مكافأة له على تأثيره، حصل عام 1971 على مسرح جديد، مجّاناً، بالإضافة إلى دعم مالي هائل، ما مكّنه من إتمام برنامجه الفني.
بحسب هاندمان، كي يؤدّي الممثلُ شخصيةً ما بدقّة، عليه أولاً أنْ يفهم وضعها ويسْتنبطه. لذا، درّب معلّمُ الفنّ الدرامي الممثّلَ على تقنيات بناء الشخصية التي سيؤدّيها، انطلاقاً من النصّ والتجربة الشخصية والتدريب. درّس طرق بناء الشخصية باستثمار ما في داخل الممثّل. مع التنبيه إلى أنّ الممثّل الفارغ ليس لديه ما يعطيه للشخصية التي سيؤدّيها.
يستخرج المعلّمُ من طلّابه أقصى وأحسن ما لديهم. يعتبر أنّ الأداءَ ينجح حين يسْكنُ الممثلُ الشخصيةَ التي يؤدّيها. حين توجد الشخصية بالنسبة إلى الممثل، تُصبح مُوجودة بالنسبة إلى المتفرّج أيضاً. يجب أنْ يضبط الممثّلُ علاقتَه بالشخصية التي يؤدّيها، ويضبط إيقاعه مع الممثل الذي يعمل معه. إذا لم يتجاوب ويتشرّب ويستهلك الممثّلُ الطاقةَ الصادرة عن الممثّل الذي أمامه، لن يكون التفاعل حقيقياً.
ملهمٌ يقوده البحثُ عن أفق الفعل الإبداعي إلى ترداد هذا: "كلّ شيء ينبثق من الحياة". لذا، يخاطب الممثّلَ: "أثْقل روحك بالواقع، ثم إرمِ نفسَك في البحر". يشرح: "حين ينطلق المُمثّلُ من الواقع، يمكنْ أنْ يذهب أبعد، لأنّ الشخصية حرّة حيّة كالبحر. بحر الإلهام".
لا يكفي أنْ تحبّ الفنّ لتنجح وتغيّر حياتك. يجب أنْ تكون قادراً على عملٍ منظّمٍ لأعوام طويلة. تختلف أساليب الأداء، لكنّ الحقيقة لا. ما يهمّ معلّم المسرح هو الحقيقة. فليجد الممثّلُ أسلوبَه.
يُخرج مَشاهدَ لا يجري فيها شيء. في التدريب، يقدّم توجيهه إلى الممثّل: "اجعلْ ذلك يتحدّث. دَعْ الأحداث تحصل". هكذا تتطوّر الشخصية من داخل الممثّل. في هذا بصمة من منهج المسرحيّ بيتر بروك، الذي يؤكّد تأثّر الباحث بفعل البحث وتصوّراته. لماذا؟ يجيب بروك: "لأنّ البحث ليس وعاء تفتحه ثم تردّه إلى مكانه في الخزانة" ("النقطة المتحوّلة"، سلسلة "عالم المعرفة"، عدد 146، ص. 143).
يتمّ إبداع محتوى عميق كثيف حيّ، يتحدّث إلى الجمهور ويُصقل في البروفات. يؤدّي الممثّلون المسرحية مرّتين يومياً، لـ4 أسابيع. يمزج الأداء بين النص الجاهز والارتجال المبدع الخلّاق. هكذا يظهر من مسار تشكّل المسرحيات كأنّه مجرى طمي، حمله السيل، ثم أخذ بفضل الصقل شكل تمثال (عندما يُستخدم هذا الارتجال في السينما، يصير كارثة، لأنّ الفيلم لا يتمّ أداؤه 56 مرّة قبل تصويره). يتدرّب الممثلون على نصوص مشحونة بالطاقة، لا على نصوصٍ ميتة. يكتشف الكاتبُ المسرحيةَ التي كتبها حين يسمعها من الممثّلين. مسرحية مكتوبة كـ"سكريبت" فيلم. يُسمَح للممثّلين بمشاهدة بروفات المسرحيات التي لا يمثّلون فيها. البروفات والارتجال مفيدان جداً. مثلاً: قَفزَ ممثّل أثناء التدريب على الطاولة، وصرخ: "المسرح ليس مكاناً آمناً، ليس ملاذاً وملجأ". لاحقاً، يحكي مورغان فريمان بأنّه فعل الشيء نفسه في أول "كاستينغ" شارك فيه، فحصل على الدور.
المسرح ليس تسلية بل مصنعاً للأفكار ومنارةً للوعي الاجتماعي. أول مسرحية قُدِّمت عن "ثورة عبيد" على سفينة، مثّل فيها 20 ممثّلاً أسود. بعد العرض، جرت مناقشة ما شاهده الجمهور. كان ذلك حدثاً صنعه The American Place Theatre. بعد ربع قرن، ظهر موضوع المسرحية نفسها في "آميستاد" (1997)، لستيفن سبيلبيرغ.
بالنظر إلى الممثّلين الذين عملوا معه، ومسارهم لاحقاً، يظهر أن وين هاندمان يملك فراسة اختيار المواهب. يعزف ويرقص. يتحدّث عن أهمية الرقص بالنسبة إلى الممثّل. الرقص تعبيرٌ بالجسد. جسد الممثّل مادة المخرج وعجينته. في الأداء والحوار، ينبغي أن تتحرّك في الممثّل أعضاء كثيرة، لا شفتيه فقط.
كان يكتب بغزارة. لكنّ الأمر مختلف على الخشبة. بالنسبة إلى الممثّل: "فعل واحدُ يساوي كتاباً من الكلمات". يكتب ويُدرّب، لذا يتراكم منجزه بتفاعل التنظير والتطبيق. في التطبيق على الخشبة، يطلب أستاذ الفن الدرامي من الممثّل دراسة الخشبة قبل العمل عليها. يشاهده يتمرّن. يأتي التنظير والتعليق بعد مُشاهدة الأداء. هكذا يصير الدرس تطبيقياً. على الخشبة، يلاحظ كيف يتغيّر أداء الممثّل حين تتغيّر الإضاءة. يعلّق على المشهد فوراً، أمام الطلاب، لأنّ التعليم تطبيقيّ. لا يُعامل الطلاب الممثّلين كما لو كانوا شخصاً واحداً. لا يُخاطب الغابة بالتركيز على الشجرة، بل يضبط خطابه تبعاً لكلّ ممثّل، لكلّ شجرة.
هكذا يستثمر البيداغوجيا الفارقة. معيار العبقرية؟ العمق والندرة (الأصالة). المعيار الواضح: النجوم الذين درّبهم. المعيار الخفي: طرح أسئلة بيداغوجية غير مسبوقة. يوفّر الوثائقي فرصة لإلقاء نظرة على تدريب الممثّل في المسرح الأميركي غير التجاري. مسرح يُعتَبر الفنّ فيه كالتفلسف، فكلاهما أنجبتهما الدهشة.
بُني الفيلم على حوار طويل مع وين هاندمان، تخلّلته صورٌ توثِّق التجارب المسرحية، ثم تساؤلات مع ممثّلين كبار مرّوا على الخشبة، فتحدّثوا وهم مسيطرون على مواضيعهم، بدليل أنّهم يقسّمونها أولاً وثانياً وثالثاً. منهم مايكل دوغلاس، الذي يعترف بأنّ وين هاندمان حرّره من قلقه، وهو يعمل في ظلّ مُرعب. قال إنّه حين نوّه هاندمان بأدائه، شعر بأنّه خرج من ظلّ ممثّل عملاق، كاد يسحقه: كيرك دوغلاس.