وليام بليك: الشياطين والملائكة في حفل راقص

21 مايو 2024
من أعمال وليام بليك (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- وليام بليك، شاعر ورسام إنكليزي، يُعتبر رائداً للمدرسة الرومانسية، مبدعاً في الشعر والرسم بتصويره لعوالم خيالية وكائنات أسطورية، مما جعل أعماله تُنظر كمقدمة لفن القصص المصورة.
- على الرغم من عدم تقديره في حياته ووصفه بالجنون، يُعتبر اليوم من أهم شخصيات تاريخ بريطانيا، مع تأكيد سيرته الذاتية على طبيعته الغرائبية وعالمه الخيالي.
- بليك جمع بين الرسم والكتابة، مبتكراً تقنية الطباعة المضيئة ورافضاً التركيز الكلاسيكي على الدقة الشكلية، مؤكداً على أهمية الخيال في تجاوز حدود الفكر العقلاني.

يُعرف الشاعر الإنكليزي وليام بليك (1757 - 1827) بأنه واحد من أهم رواد المدرسة الرومانسية في الشعر. في الحقيقة، لم يكن بليك شاعراً فقط، بل كان رساماً أيضاً، وصاحب أسلوب فريد بين فناني عصره، غير أن سُمعته في الشعر طغت على سمعته بالفن. لا تختلف أجواء الرسومات التي تركها وليام بليك عن شعره؛ إذ اتّسمت في الغالب بأجوائها الخيالية وكائناتها الأسطورية. في هذه الرسوم، تنقض التنانين على البشر، وتجتمع الشياطين والملائكة في حفل راقص، بينما تظهر بين الحين والآخر شخصيات بأحجام استثنائية، كي تنتصر للخير في مواجهة الشر. يرى بعضهم في هذه الشخصيات التي ابتكرها بليك مُقدمة مبكرة لشخصيات الأبطال الخارقين الذين ظهروا لاحقاً في فن القصص المصورة، ثم انتقلوا منه إلى السينما.

من أجل تسليط الضوء على هذه التجربة الإبداعية المُلهمة، يفرد متحف فيتزويليام Fitzwilliam في جامعة كامبريدج البريطانية معرضاً مُخصصاً لرسوم الشاعر الإنكليزي، ذي الأصول الأيرلندية، تحت عنوان "عالم وليام بليك".

 تُلمّح الكلمة التقديمية للمعرض بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ولكن من دون الإفصاح عنه صراحة، إذ تدعو الجمهور إلى الاستمتاع بالطبيعة الروحانية لأعمال بليك، باعتبارها "نوعاً من الاستجابة للفن في مُقابل دعوات الحرب والاضطرابات السياسية".

يضم المعرض الجديد تشكيلة متنوعة من أعمال الفنان الإنكليزي من مجموعة المتحف الخاصة، إلى جانب عدد من الأعمال الفنية لمعاصريه الأوروبيين، مثل الرسامين الرومانسيين الألمان؛ فيليب أوتو رونغي وكاسبار ديفيد فريدريش.

يقول البيان المُصاحب للمعرض إنه "على الرغم من أن هؤلاء الفنانين لم يلتقوا أو يتواصلوا أبداً في حياتهم، فإنهم تشاركوا في إحساسهم بالفردية والإيمان بقوة الفن في خلاص مجتمع يمر بأزمة".

وفي السيرة التي كتبها في منتصف القرن التاسع عشر، يذكر الكاتب البريطاني ألكساندر غيلكريست أن وليام بليك كان يعيش في عالم خيالي منذ صغره، حتى أن والديه قد أحجما عن إلحاقه بالمدارس النظامية. ويروي كاتب السيرة أن بليك قد عاد يوماً إلى والديه وهو طفل صغير، وعليه علامات الفزع، ليخبرهم بأنه رأى في طريقه شجرة يجلس على أغصانها ملائكة صغار بأجنحة لامعة. ويقال أيضاً إنه تنبأ مرّة لمعلمه (ويليام ريلاند) بأنه سيموت شنقاً، وهو ما تحقق بالفعل بعدها ببضعة أعوام. هي روايات قد تتسم بالمبالغة بالطبع، لكنها تشي بالطبيعة الغرائبية التي ميزت شخصية الشاعر والفنان.

لم تلق إبداعات وليام بليك تقديراً في عصره، بل كان يُحذَّر من شعرِه ورسوماته بسبب آرائه الثورية التي وُصفت بالتطرف. كما اتُّهم بالجنون والشطط في مواقفه، بسبب آرائه المتعاطفة مع الثورة الفرنسية ومطالب سكان أميركا بالاستقلال عن بريطانيا.

إلا أن هذا الشاعر والفنان الذي اتسم بغرابة الأطوار يُنظر إليه اليوم بصفته واحداً من أهم الشخصيات في تاريخ بريطانيا. وقد صنّفه استطلاع أجري عام 2002 في الترتيب الـ38 بين أهم مائة شخصية بريطانية في التاريخ. في المقابل، يلقى بليك، في عصرنا الحالي، تقديراً خاصاً في الوسط الفني، لما في تجربته من تشابه مع مفهومنا اليوم حول طبيعة الممارسة الفنية المُعاصرة، من حيث اعتمادها على وسائط عدة وأساليب مختلفة ومتداخلة في التعبير.

 أنتج بليك مئات الأعمال المتنوعة والغنية بالرموز خلال مسيرته الفنية، كما جمع بين الرسم والطباعة وكتابة الشعر، بل مزج بينهما في أحيان كثيرة في أعماله، ليشكل عالماً أسطورياً يتسم بالتعقيد والعمق، ويعبر في الوقت نفسه عن طبيعة عصره وثقافته.

يمكن القول إن وليام بليك كان تقدمياً ومتجاوزاً لعصره، فقد ظهر في وقت كان الخلط فيه بين الوسائط المختلفة يُعد ضرباً من الجنون. غير أن الفنان الإنكليزي لم يلتفت أبداً إلى هذه الأصوات الساخرة من فنه، بل واصل عمله في إصرار وتحدّ.

كان فن بليك فريداً من نوعه بين فناني عصره، في دمجه للكتابة والرسم في عملية إبداعية واحدة، وفي استخدامه التقنيات الجديدة للجمع بين الصورة والنص. ومن خلال تقنية الطباعة المُضيئة التي ابتكرها، تمكّن من تكييف أدواته للتعبير عن رؤيته للعالم من حوله.

وخلافاً لمعاصريه أيضاً، شدد وليام بليك في كتاباته وفنه على أهمية الخيال الفردي والإلهام في العملية الإبداعية، رافضاً التركيز الكلاسيكي على الدقة الشكلية التي اتسم بها الرسم والشعر في القرن الثامن عشر. كما احتقر ثقافة التنوير والتصنيع المعاصرة، التي تمثل الميكنة والاختزالية الفكرية في رأيه، ورأى أن الخيال هو الطريقة الوحيدة للتخلص من الحجاب الذي يلقيه الفكر العقلاني على الواقع.

المساهمون