وحيد حامد... مُرافق أجيالٍ ومؤرّخ حياة

02 يناير 2021
لاسمه وأعماله مكانة عميقة في نفوس كثيرين (عمرو مراغي/فرانس برس)
+ الخط -

يبدو أنّه موسم رحيل كبارٍ في صناعة الصورة العربية، سينمائياً وتلفزيونياً. العام السابق يمضي آخذاً معه أناساً يساهمون في تشكيل وعي معرفي عبر أعمالٍ وسجالاتٍ. بداية العام الجديد توسم برحيل من له حضور في مشهدٍ يرتبط، بشكلٍ أو بآخر، بمسار تاريخٍ، وتحوّلات بلدٍ، وتغييرات اجتماعٍ، وتبدّلات بيئات محيطة. موسم قاسٍ، لكنّه قدرٌ لا مفرّ منه.

آخر الراحلين السيناريست والمنتج المصري وحيد حامد. لاسمه وأعماله مكانة عميقة في نفوس كثيرين، ينتمون إلى أكثر من جيل وبلدٍ عربيّ. بعضهم يتابعه منذ مطلع شبابٍ إلى نضج ووعي، وبعض النضج والوعي منبثق من اشتغالاته. غلبة إبهارٍ في كتابةٍ تُفْتَقَد بين حينٍ وآخر، يُقابلها خلل يتسلّل أحياناً في مسام نصٍّ، من دون أنْ يُفقِد النص هيبته الجمالية.

راهنٌ يُقلِق تفكيراً وتأمّلات له، وتاريخٌ يرى فيه منافذ لقولٍ عن راهنٍ أيضاً. اختزال الكتابة إلى ساعتين مثلاً (سيناريوهات سينمائية)، تُشبه تكثيفاً درامياً في كتابة حلقات تمتدّ من دون ملل، وتنفلش على روحٍ ومسائل ومخبّأ، من دون إرهاق المتابع أو تشتيت انتباهه.

نبأ رحيله (في اليوم الثاني من العام الجديد) يحول دون تمكّن من استعادة أفلامٍ ومسلسلاتٍ، بعضها مؤثّر في نمط الكتابة، وفي كيفية مقاربة أحوالٍ وتساؤلات وعيش. السياسيّ حاضرٌ، لكن البصريّ يمنعه من تمدّدٍ درامي يتغلّب عليه.

التاريخ والاجتماع والنفس البشرية عناوين عامة، يستغلّها وحيد حامد في أعمالٍ، يصعب فصل كل علمٍ فيها عن بقية العلوم الإنسانية. مزيجٌ مُحبَّب، يُشكِّل مرآة شفّافة وقاسية ومرغوباً فيها، لتمكّنها الفني والجمالي من أنْ تعكس بواطن يُراد لها تغييباً دائماً، وتطرح أسئلة يجهد كثيرون في إخفائها.

لائحة أفلامه طويلة، والأهمّ ـ سينمائياً وفكرياً وجماليات ـ قليلٌ، رغم أنّ الأقلّ أهمية غير فاقدٍ إبهاراً ما، في كتابة لقطة، أو في رسم شخصية، أو في حِرفية حوار. الإرهاب جزءٌ من اشتغالٍ ضروري، فالإرهاب الضارب مصر في أعوامٍ سابقة يحتاج إلى مواجهة خارج الأمن والعسكر.

التحوّل الجغرافي والاجتماعي والإنساني ينسلّ بهدوء في نصوصٍ وإنتاجات، متحرّراً من صخب الأيديولوجيا أحياناً، ومبتعداً ـ أحياناً أخرى ـ عن غضب وتوتر يحولان دون ترجمة وعي معرفي إلى لوحات بصرية. نصوص حامد تسرد وتروي وتُصوّر، وتترك للمُشاهد مساحة آمنة لمُشاهدة ونقاش وتواصل. إنتاجه غير منفصل عن مواقف مبثوثة في كتاباته.

تعاونه مع المخرج شريف عرفة والممثل عادل إمام جزءٌ من مشروع ثقافي لتفكيك شيءٍ من بيئة اجتماعية، ولتنبيهٍ إلى مخاطر، من دون جعل التنبيه خطاباً وتنظيراً. "اللعب مع الكبار" (1991) و"الإرهاب والكباب" (1992) مثلاً دليلٌ على كيفية تحويل عمل جماعي إلى حِرفيةٍ سينمائية، تقول بالصورة والصوت حالاتٍ وانفعالاتٍ، مانحة للنفس الكوميدي متين الصُنعة ـ في الوقت نفسه ـ حيّزاً يترافق وخراباً حاصلاً في بلدٍ وبين أناسٍ.

تعاونه مع المخرج شريف عرفة والممثل عادل إمام جزءٌ من مشروع ثقافي لتفكيك شيءٍ من بيئة اجتماعية، ولتنبيهٍ إلى مخاطر، من دون جعل التنبيه خطاباً وتنظيراً

"المنسي" (1993) يُضاف إلى مشروعِ الثلاثي: أهناك من ينسى جمالية الاشتغال، الذي يسبق، بأعوامٍ مديدة، حالة تردٍّ لاحقٍ لأعمالٍ متفرّقة لعرفة وإمام؟ اقتباسه "رغبة متوحشّة" (1991)، لخيري بشارة، عن مسرحية "جريمة في جزيرة الماعز" (1946)، للإيطالي أوغو بيتي (1892 ـ 1953)، تتزامن واشتغال علي بدرخان على المسرحية نفسها في "الراعي والنساء" (1991)، ما يُمكّن المهتمّ من إجراء مقارنة لن تكون في صالح بدرخان، على مستوى الكتابة السينمائية، مع أنّ الحضور الرائع لسعاد حسني وأحمد زكي يجعلان فيلم بدرخان بديعاً.

وفاة وحيد حامد تبدو تحريضاً على استعادة متأنّية لأفلامٍ ومسلسلات، لما في بعضها على الأقل من جماليات وتحدّيات ومغامرات تنتقل من الكتابة إلى التمثيل والإخراج والإنتاج، ومن مواضيع دقيقة وحسّاسة إلى آليات معالجة ومقاربة.

تحريضٌ كهذا يُقال به دائماً مع رحيل بعض صانعي تاريخٍ جديدٍ للسينما والتلفزيون العربيين، لكنّه يبقى للأسف مجرّد تمنٍّ. فمع الانتهاء من كتابة مرثيّة سريعة، تُغلق الستارة، وينصرف الجميع إلى مشاغل يومية.

المساهمون