وحيد الخان... عودة إلى طريق اللؤلؤ

22 سبتمبر 2023
تخرّج وحيد الخان من كونسرفاتوار القاهرة باختصاص عازف لآلتي الأوبوا والبيانو (فيسبوك)
+ الخط -

لطالما أغفلت الدراسات الموسيقية العربية (الغنائية - الشعرية)، حقيقة أنّ غرب وشرق وجنوب الصحراء العربية المنبسطة على مساحة شبه الجزيرة العربية الشاسعة، يقع البحر، كما أغفلت أيضاً معظم الأبحاث والمرويّات الموسيقية العربية تقاليد الموسيقى في الخليج العربي، حالها في ذلك حال الموسيقى المغاربية، بألحانها وضروبها الإيقاعية وقوالبها المختلفة.

لكن لا بد لنا بدايًة من الوقوف عند الموسيقى في الخليج العربي، في معرض حديثنا حول ألبوم "العودة إلى الحياة"، للمؤلف البحريني وحيد الخان، الذي أطلقه في أغسطس/آب الماضي، في مهرجان موسيقي البحر في مدينة سوتشي الروسية.

منذ القدم، وقبل ظهور المسيحية بوقت طويل، وحتى أقل من مائة عام من يومنا هذا، كان البحر محور التقاليد والطقوس الحياتية الاجتماعية في الخليج العربي، فالنقش الآشوري، "عيون السمك من دلمون"، الذي يعود تاريخه إلى 2500 عام قبل الميلاد، لم يكن يشير إلا إلى لآلئ الخليج، ودلمون تلك هي العاصمة الحضرية والبحرية التي تقع في البحرين، وكانت محجّ أقوام متنوعة، ومجموعات عرقية شتّى، بغية الغوص واصطياد اللؤلؤ، وهذا ما أشار إليه الرحّالة العربي ابن بطوطة في "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، قائلًا: "يمارَس الغوص على اللؤلؤ بين سيراف والبحرين، في خليج يشبه النهر الهادئ. وفي نيسان وأيار تصل إلى هناك العديد من القوارب الصغيرة، وعلى متنها أطقم وتجار من فارس والبحرين والقطيف". فإذن نحن أمام تباين وتمازج غني جدًا، ما بين أعراق وثقافات مختلفة، ما بين البدوي الصحراوي الذي رفع الشعر لموضع التقديس، وغنّاه على ضروب خِفافِ الجمال وحوافر الخيل، وعندما اعتلى البحر وغاص في مجاهيله وأبحر، غنّاه على جلبة المجاذيف وتلاطم الأمواج ووجيف القلب وأنين السفن.

لم تتغير الإطاريّة العريضة لحكايا الصحراء والبحر، بل بمعنى مجازيّ هي فقط تلوّنت، فالخوف والاحتضان اللذان من خلالهما تشكّلت شخصية الأول في الصحراء، وفعل البحر فعلها في الثاني، وهذا ما يفسّر خصوصيات الأنماط اللحنية والإيقاعية أو الآلات التي تشكل الاختلافات الملحوظة بين هذه الموسيقى (في الخليج العربي)، والموسيقى العربية عامة. وبما أن الملاحظة نفسها تنطبق على جميع الأنواع الموسيقية المؤدّاة في بلدان الخليج، فلا بد من البحث عن أصول هذه الأشكال والأنماط، واقتفاء أثر التلاقحات التي غابت مسبباتها وبقيت آثارها في شخصية الغناء الشعبي الخليجي. فكما كان هناك في ما مضى طريق الحرير، كان أيضا طريق اللؤلؤ.

من اللافت في ألبوميّ وحيد الخان "العودة... روح البحرين" (2018) و"العودة إلى الحياة" (2023) حضور كلمة العودة، وليس ذلك بالغريب عن مؤلف محرّقي، فمعظم الدور الشعبية التي كانت تمارس فيها الفنون البحريّة كانت في جزيرة المحرّق، وبذلك تشبّعت روح المؤلف بذكرياتها، وبحكايا الجدات وأساطير البحر والخوف من "أم حمار"، وقصص الغواصين وأغاني النهّامة، وإيحاءات البحر (النحبه) في غنائهم أثناء رفع الشراع والسارية، والحندة خلال شد الحبال، والهمهمات التي تطلق مجازًا لمغامرات البحر.

كان لأغاني القفال استئثارها في وصف فرح الرجال والأطفال (في البحر) والأمهات والبنات (في البر)، وبهجتهم بانتهاء موسم الغوص وصيد اللؤلؤ الذي يستمر لأربعة أو خمسة أشهر، تجتمع في نهايتها كل السفن حول سفينة أمير الغوص منتظرًة صوت المدفع من سفينته معلنًا به نهاية موسم اللؤلؤ، والاستعداد لرحلة العودة، وهنا يكتظ كثير من الكلام في جعبة الفرح، فهو فرح بالمحصول الذي أضنى البحارة لكسبه، وهو فرح للقاء سيطفئ لوعة شوق وفراق دام لشهور، وفرح الراحة بعد التعب، وأيضا فرح النجاة من البحر وأهواله. فشعوب اللؤلؤ وثّقت حكاياها وأساطيرها بالأغاني والسرديات، التي خاطبت البحر كحيّ مسؤول عن إعادة غائبيها سالمين، وخاصّة النساء اللواتي هدهدن لأطفالهن لأنْ يَكبُروا ويمتشقوا طول السارية، يُعدِدنَهم ليصيروا في الثانية عشرة من العمر أهلًا لخوض غماره وشقّ مجاهيله: "يعلة يوم قال انقة/ يعلة للدقل يرقى/ يفتل حبال الغوص/ وكل مدلل يشقى".

تخرّج وحيد الخان من كونسرفاتوار القاهرة باختصاص عازف لآلتي الأوبوا والبيانو، ثم حصل على درجة الماجستير في موسيقى الشعوب. وتأتي تجربته في التأليف لتنضم لتجارب مؤلفين عرب آخرين معاصرين له، ومنهم من له السابقة في المحاولات والطروحات الموسيقية التي تطرقت لموضوعات الموسيقى العربية، من منظار علوم الانسجام (Harmony)، أو تعددية الألحان (Counterpoint)، أو محاولات التوزيع الأوركسترالي (Orchestration)، مثل عمر خيرت الذي كان من أوائل من أقحم الآلات والألحان والإيقاعات العربية ضمن المجاميع الصوتية ذات النسيج المتعدد، وقدمها إلينا من خلال الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات التلفزيونية، فكانت بمثابة الوسادة التي اتكأت عليها تجارب كثيرة لاحقة.

لكن المميز في تجربة عازف الغيتار في فرقة "الشموع" هو بروز شغفه المبكر منذ شبابه لموسيقى الروك الغربية آنذاك كفرقة "ذا بيتلز"، فيطفو على موسيقى الخان في ألبومه الجديد مزاج انسيابي سلس صيفي، يُستأنس سماعه لدى شتّى الأذواق، فهو لم يغرق في استخدام البنيويات الشعبية إلا البسيطة منها، التي تنصاع لقواعد الموسيقى الأوروبيّة، فكانت ألوانًا توحي بشيء من روح الخليج كالإيقاعات أو الآلات الشعبية، شأنه في ذلك شأن المؤلف السوري عاصم مكارم في ألبومه "ألوان" (Colors)، الذي أطلقه عام 2014، لكن بفارق أن مكارم استخدم الربع صوت بكثرة في ألبومه المذكور.

يتقاطع المؤلف البحريني مع المؤلف الأردني طارق الناصر في استخدام الطّرُق ذاتها في المرافقات الموسيقية (التوزيعيّة)، فيذكرنا بشارات المسلسلات التي عمل على تأليفها وتوزيعها طارق الناصر، كما يشترك المؤلفون الثلاثة، الخان ومكارم والناصر، باستخدامهم اللطيف لإيقاعات الجاز، والإيقاعات اللاتينية والأوروبيّة، لكن يميز الخان تفرده بالإيقاعات الخليجية.

لم يعتن الخان في ألبومه الأخير، "العودة إلى الحياة"، بالموضوعات الشعبية لسرديّات الفن البحري، كما كان في ألبومه الأول "العودة.. روح البحرين"، الذي أصر فيه على استخدام الألحان الشعبية البسيطة، لا بل طرحها من خلال سيناريو موسيقى يستدعي فيه ذكريات طفولته وحنينه لبساطة الحياة البحرينية (والخليجية عامّة) التي أخذت تختفي رويدًا رويدًا، حتى باتت تكاد تزول في وقتنا الراهن، كما أن المؤلف صبّ في "العودة.. روح البحرين" تراكمات قطيعة مع عالم الموسيقى لفترة طويلة أخذته الحياة فيها لضفاف أخرى، فامتلأ العمل بالشجن والذروات الموسيقية التي قلما وُجدت في ألبومه الجديد، ما شكل فارقًا واضحًا بينهما، كدليل على تنوع مخيلة الخان، وأيضًا دافعا لانتظار جديده القادم.

المساهمون