وثائقيّ إيطاليّ عن فلسطينيي صبرا: بحثٌ عن ضوءٍ وسط عتمةٍ خانقة

28 أكتوبر 2024
"الزلمي الوائع": حنظلة نورا يُلوِّن عتمة مبنى يتداعى (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يزور جيوفاني سي. لوروسو بيروت لتوثيق حياة الفلسطينيين في عمارة مهملة، ويكتشف تعقيد واقعهم في بيئة لبنانية طاردة، مما يدفعه للتعمق في حياتهم اليومية.
- يركز الفيلم الوثائقي "الزلمي الوائع" على حياة سكان العمارة، وخاصة الأطفال، ويستعرض تفاصيل حياتهم اليومية وفضولهم حول الأحداث الغامضة، مما يعكس رغبتهم في الهروب والبحث عن حياة أفضل.
- يبرز الفيلم الجوانب الجمالية في حياة السكان، مثل رسومات الطفلة نورا، ويقدم مشاهد بصرية تعكس التناقض بين البؤس والجمال، مما يضفي عمقًا على العمل السينمائي.

 

يأتي الإيطالي جيوفاني سي. لوروسو إلى بيروت. يدخل عمارة سكنية مُهمَلة، يسكنها فلسطينيون من صبرا، ليراقب أولاً، من قرب، كيف يعيش هؤلاء في مكان غير صالح للعيش الآدمي أصلاً، وكيف يتعايشون مع بيئة لبنانية طارِدةٍ لهم. ثمّ يُقرّر أيّ نسق توثيقي يلائم تلك البيئة الغرائبية، وأي الاشتغالات الجمالية أنسب إليها، بعد تأكّده أنّ المعلومات التي حصل عليها قبل حضوره في المكان، لن تنفعه كثيراً لإنجاز فيلمٍ عن بشر يُقيمون في مكان قذر، لا تدخله أشعة الشمس، وخالٍ من شروط العيش الآدمي السوي.

لن تفيده كثيراً معلومة تشير إلى أنّ هذه البناية كانت في الأصل مشفى تابعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل إجبارها على الرحيل عام 1982، في الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأنّ المليشيات اللبنانية المتحالفة معها فكّكتها، فغدت هيكلاً إسمنتياً فارغاً، جاء الهاربون من مذبحة شاتيلا وصبرا بعد حين للإقامة فيه، بعد أنْ خسروا كلّ ما يملكون.

ينقل صانع "الزلمي الوائع" (هكذا كُتب اسم الفيلم باللغة العربية أصلاً، وباللغة الإنكليزية A Man Fell) المعلومة على لسان رجل مُقيم فيها، لا ليؤسِّس عليها منجزه، بل ليجعلها مدخلاً إلى التقرّب من الكائنات التي تقطنها.

مع كلّ البؤس الذي يعيشونه فيها، هناك رغبة عندهم في الخروج إلى الضوء، والبحث عن حياة أفضل، رغم معرفتهم أنّ هذا يقارب حلماً أكثر منه واقعاً قابلاً للتحقّق. يلتقط لوروسو هذا التوق عندهم، ويتتبّعه في سياق اهتمامه في نقل مشهد سكان العمارة ـ المشفى من داخلها. في مركزها، يظهر الصبي عرفات (11 سنة) حيوياً، يتنقّل بين الشقق عارية الجدار، مع قرينه محمد، مُلبياً طلبات جيرانه، ومُساعداً في شراء أغراض يريدونها من محل قريب. ترحب الكاميرا (التصوير للمخرج نفسه) بوجوده، وتطلب مرافقته ما دام أنّه يوصلها إلى بقيةٍ، يبدون غير راغبين طواعية في الظهور. الانكفاء الداخلي يفرضه عليهم خارجٌ كارهٌ لهم. يتركهم أسرى وجودهم الضيق، والخانق للأنفاس. الرائحة الكريهة المنبعثة منه تُنفّر المتقرّب منهم، وتدفعه إلى الابتعاد.

وسط ذلك المكان البائس، تمضي الحياة في حدودٍ ضيّقة. سكّان فقراء يتحايلون على واقعهم ليبقوا أحياءً. دخان السجائر الرخيصة والمخدرات يملأ فضاء غرفهم الفارغة. سكّان يتلهّون بأخبار يسمعونها من الخارج، وأكثرها إثارةً للفضول خبر سقوط رجل من الطابق الرابع في البناية المقابلة لعمارتهم. الخبر يقسم سكان "مشفى غزة" بين مُصدّق ومُكذّب له. أما عرفات وبقية أقرانه، فيأتيهم الفضول من مكان آخر من البناية: من مستودعها الذي يريدون معرفة حقيقة وجود آخرين فيه يمارسون الدعارة، ويُتاجرون بالممنوعات، وبكل خارج على القانون.

تبدو الأخبار والنميمة مُحرّكاً حيوياً لسكان العمارة. عدا ذلك لا جديد عندهم. حياتهم رتيبة وكئيبة، يقضونها بين جدران متّسخة. لا يتفاعلون مع الخارج الواسع إلا في مناسبات نادرة. انكفاء إجباري، يزيد من عزلتهم وإحساسهم بأنّهم طارئون على بلدٍ عاشوا فيه، ولا يعرفون مكاناً آخر سواه. هذا يدفعهم إلى مزيدٍ من الانسحاب إلى الداخل.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يستغلّ صانع الوثائقيّ وجود عرفات ومحمد فيه، للوصول إلى مساحات أخرى من المكان. تُصرّ كاميرته على التقاط كلّ ما يشي بوجود حياة فيه. تلاحق بحذر الطفلة نورا، المُحبّة للرسم، التي يتعاون الجيران على تأمين طباشير لها. رسوماتها تُبيِّض سواد الجدران، وتمنحها تدفّقاً وحياة. ترسم من وحي التجربة الفلسطينية رسومات تستنسخ فيها شخصية حنظلة في الرسومات الكاريكاتورية لناجي العلي. تتوقّف الكاميرا لحظاتٍ عند جنين الصبية المهتمّة بجمالها، رغم عيشها في مستنقع بائس.

اللافت للانتباه في "الزلمي الوائع" (2024) حرص كاتبي نصّه (المخرج وياسر كمال العلي) على نقل تفاصيل المشهد المُعتنى باشتغالاته الجمالية، المثيرة بدورها لسؤال عن جدواها في مكان لا فسحة فيه للجمال.

المُحصّلة النهائية للمنجز تُبرّر رهانات صانعه، وتضعه في المكان الصحيح، بوصفه عملاً سينمائياً، الاشتغال الجمالي والرهان عليه شرطا وجوده. لا تستقيم صَنعة السينما من دون جمال بصري، ولا وسيط تعبيري عميق ينقلها. من دونهما، لا تتحقّق معادلة التوافق بين الجمال والخيال والبحث الجدّي في المادة المُقترح تقديمها على الشاشة. هذا يحقّق، وبإدهاش، في منجزه السينمائي، الذي يرى في شدّة العتمة الداخلية منفذاً للضوء، يلتقطه ويوسّع دائرته. وحين يساعده الحظّ، ويحدث أمرٌ آخر يزيد من قوته ومصداقيته، لا يُفوّته. كتلك اللقطة المأخوذة بكاميرا فيديو منزلية، لرجل يهبط من شبّاك شقّة سكنية. وفي محاولته النزول منها، يسقط على الأرض ويموت، فيُنهي أقاويل كثيرة سرت بين جدران عمارة سكنية، بصعوبة يسمح ضيقها بمرور خبر أو أغنية بين ممرّاتها.

يكسر الرسم وأغاني الصبايا حَجْراً مُؤلماً، ويفتح ثقباً للتوّاقين إلى رؤية الضوء في الخارج، والاختلاط ببقية بشر تعيش في المدينة نفسها التي ينتمون إليها.

المساهمون