الدراما التلفزيونية... ماذا نريد من هذه السلعة الاستراتيجية؟

28 أكتوبر 2024
من موقع تصوير مسلسل "باب الحارة"، 22 أغسطس 2008 (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نشأت الدراما التلفزيونية في الولايات المتحدة كوسيلة لجذب المشاهدين، وتبنتها الدول العربية لتصبح وسيلة شعبية تساهم في تشكيل الثقافة العربية.
- استخدمت الدراما العربية كأداة تنويرية لتعزيز الوعي الثقافي، لكنها واجهت تحديات في تقديم محتوى يتماشى مع القيم المحلية، مما أدى إلى إنتاج أعمال تركز على القضايا الوطنية والاجتماعية.
- مع تطور التكنولوجيا، استمرت الدراما في التأثير على المجتمع العربي، حيث ساهمت المسلسلات الشعبية في تعزيز العزلة الاجتماعية وعكست تأثيرها العميق على الثقافة.

قبل أن نتساءل عن احتياجنا نحن العرب إلى الدراما التلفزيونية، ربما علينا أن نسأل: لماذا الدراما التلفزيونية؟ من أين جاءتنا؟ وما هي مستدعيات وجودها بيننا؟ لكننا على سبيل الاختصار والتأجيل إلى مناسبة أخرى، نزعم أن هذه الدراما جاءت من أميركا، موئل التلفزة الأول، فمحطات التلفزيون هناك ووقتئذ، هي محطات تجارية، مثلها مثل أي وسيلة إعلامية أخرى، تحتاج إلى فقرات ترفيهية تجذب المشاهد إليها، خصوصاً أن هذا الجهاز ولد هجيناً، فهو ناتج عن زواج الإذاعة بالسينما مالئة الدنيا وشاغلة الناس. التلفزة أخذت بهذا الوليد الواعد، وكيفته على قد تقنياته، وعملت عليه تطويراً وتسويقاً، صانعة منه فناً بصرياً مستقلاً حددت مواصفاته ودوراته البرامجية ومواصفاته الإعلانية، وأخذنا نحن العرب هذا الفن وكيفناه على قد منظورنا الإعلامي/الثقافي، حتى صار سلعة شعبية تجلب المشاهدين وتساهم في تشكيل ثقافتهم.
بداية، عوملت الدراما التلفزيونية العربية كفرصة تنويرية، همها تثقيف الناس، وتعميم وتوحيد هذا التثقيف، عبر زيادة معارف هؤلاء بالدنيا وأفكارها، ومحاولة جذبهم إلى ثقافة تطورية مستندة إلى المنجز العالمي ونماذجه الثقافية. هذا بالفعل ما حصل مع المحطات التلفزيونية الأولى، في ستينيات القرن الماضي كالعراقية والمصرية والسورية واللبنانية، فالضخ التلفزيوني فيها، اعتمد على الأخبار السياسية والبرامج التوجيهية، وترك للدراما مساحات صغرى ما بعد نشرة الأخبار الأولى، وتلغى عند أي حدث سياسي تحتاج السلطات إلى تبليغه للشعب. ومع هذا، أصر المشاهد العربي على مشاهدة الدراما التلفزيونية كبديل للذهاب إلى السينما والمسرح، فقد اختلطت عليه الفنون وتراتبيتها، نتيجة هذا التطور الصاعق في تقنيات العروض البصرية من جهة، وتفضيله الجلوس في البيت مع الأسرة لمشاهدة سينما منزلية من دون الذهاب إلى الصالة (هذا ما حصل مع جهاز الفيديو لاحقاً) من جهة ثانية. وهكذا قدمت المحطات التابعة للدولة غالبا، مسلسلات وتمثيليات لا بل ومسرحيات أيضاً، في إطار تقني بدائي، ولكن بمحتوى يحاول أن يكون تنويرياً، كتعويض عن سمعة الفن والفنانين في السينما المثربة في تلك المرحلة، حيث تم التركيز على القيم "الغربية" المحدثة التي كانت تجوب العالم وقتئذ، وإن كان على سبيل الانتقاد والتشهير في بعض الأحيان، فالأنموذج الثقافي الغربي، كان ولما يزل، هو التوجه الأساسي للدراما لتلفزيونية ثقافياً، إن كان من ناحية التقنيات (من الكتابة حتى التسويق)، أو من ناحية المحتوى، فالاقتباس واضح في هذا المجال، مع بعض التعديلات الاحتشامية، المنسوبة إلى عقلية المتلقي التقليدية والمحافظة، أو من ناحية المتطلبات السياسية لملّاك المحطة، وهم في الغالب الدولة، متمثلة بوزارات الإعلام. وهنا ينقسم السؤال إلى العديد من الأسئلة التكوينية للسؤال الأساسي. ماذا تريد الدولة من الإنتاج الدرامي للتلفزيون؟ وماذا يريد المشاهد؟ وماذا يريد المنتجون والموزعون؟
وجدت المنتجات الثقافية، ومنها الدراما التلفزيونية، نفسها ومنذ ولادتها، أنها أمام قضايا ومسائل وطنية وإجتماعية تستوجب الحل، أهمها المسألة الفلسطينية، وقضية الوجود المجتمعي، ومعضلة التخلف، مما كبل صناعة الدراما، بجعلها دراما ملتزمة بوقائع و مجريات محلية لا فكاك منها، وهذا ما جعل منها حالة "نضالية"، المطلوب منها تصليب موقف الناس من خلال توعيتهم توعية تخدم الإرادة السياسية وتوجهاتها، وهذا ما قدم مهمة الرقابة ودفعها إلى تحديد ما هو غير مرغوب به، وبهذا عرف صناع العمل ما يستطيعون أن يفعلوه بهذه التكنولوجيات المحدثة، ولكن بوصلتهم تخلخلت من حيث المحتوى، فهم ملتزمون بالقضايا والمسائل السالفة، ولكن بأيد مغلولة. فالفضائحية المرافقة للمنتج الثقافي، بمعنى الكشف عن المسكوت عنه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، انتفت من أولويات الاندفاع لصناعة عمل يقبل عليه الجمهور ضمن شروط الالتزام المفترضة.
في نهاية سبعينيات القرن المنصرم، تبدل المشهد التلفزيوني تكنولوجياتياً، إذ انتشرت المحطات الأرضية الباثة إنتشاراً واسعاً، وبدأت بالتهام المنتجات التلفزيونية، وبدأت المسلسلات ذات الثلاث عشرة حلقة، والتي تبث على مدى ثلاثة أشهر (الدورة التلفزيونية الأميركية) بالانتشار السريع في بيوت العالم العربي، كغاية بحد ذاتها، مع زيادة مفرطة في الاحتشام الثقافي والاجتماعي، حيث فرضت الرقابات شروطها علناً، وتنازل صناع الأعمال التلفزيونية إزاءها، لدرجة أن الأعمال الإذاعية صارت تنافسها. ومع هذا، استمر التحكم بشكل المسلسل الدرامي ومضمونه، خصوصاً عندما حلت المحطات الفضائية (أواخر الثمانينيات) محل الأرضية، وأصبحت قادرة على التهام الأعمال الدرامية بصورة أكبر بكثير، ولكن من دون تأثير أو تغيير في الشكل والمحتوى المراقب والمتحَكم به جيداً، إلا من ناحية تطور تكنولوجيات التصوير والإخراج.
هل هناك من يدري بما تريده المحطات التلفزيونية من الدرامة التلفزيونية؟ خصوصاً أن هذا المنتج الثقافي هو سلعة استراتيجية، انطلاقاً من التزامها بضرورة معالجة أزمات الواقع، وانتهاءً بتأثيرها الوجداني على ثقافة الأجيال؟
لا أظن أن أحداً يعرف ماذا نريد من الدراما التلفزيونية، وأظن أن مسلسلات مثل "عائلة الحاج متولي" و"باب الحارة"، وهي مسلسلات شعبية مؤثرة بعمق في الوجدان الشعبي الذي ازدادت أميته الاجتماعية على الرغم من طوفان الأعمال الدرامية التلفزيونية، ساهمت وبشكل فعلي في إطالة إقامة الناس داخل أسوار المنزل الذي يشكل "غيتو" بشكل من الأشكال. فـ"باب الحارة" الذي يغلقه السكان على أنفسهم هو نفسه شعار لغيتو، قد تساهم الدراما التلفزيونية العربية في إنشائه.
 

المساهمون