وثائقيان جديدان لرشيد مشهراوي: صُوَر تروي سيرة فرد وبلد وتاريخ

29 نوفمبر 2021
رشيد مشهراوي: فلسطين أولاً ودائماً (لاري بوساكّا/ Getty)
+ الخط -

 

الصُّور الفوتوغرافية، مُرفقةً بتسجيلٍ سمعي بصري (شريط فيديو "في أتش أس")، عِمَاد "استعادة"، المُشارك في برنامج "روائع عربية"، في الدورة الأولى (7 ـ 15 ديسمبر/كانون الأول 2021) لـ"مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي". كاميرا صغيرة، محمولة على يدٍ واحدة، ركيزة "يوميات شارع جابريئيل"، المُشارك في مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ43 (26 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. الفيلمان وثائقيان جديدان (2021)، للفلسطيني رشيد مشهراوي.

مشتركات عدّة بينهما، تُلخَّص بـ: حضور طاغٍ لفلسطين، ذاكرة وتاريخاً وتحوّلاتٍ وحالات، مباشرة أو مواربة؛ السينما، صالاتٍ وصناعة أفلام وعاملين فيها؛ الذاتيّ، تجربة وعيشاً وعلاقات وأحاسيس. تفاصيل أخرى حاضرةٌ في بنية النص السردي، أو في هوامشه. شخصيات تظهر بين حينٍ وآخر، رغم أنّ في الـ"يوميات" هامشاً أوسع لها، فالشخصيات ركنٌ أساسيّ فيها. الذكريات الخاصة برشيد مشهراوي تنبثق من روايةِ آخر، أو من معاينته الذاتية راهناً يُقيم في جغرافيّته.

مدنٌ قليلة مذكورة في الفيلمين، تُصبح إحداها ديكوراً نابضاً بحياةٍ وارتباطات، تخضع كلّها لتبدّلات يفرضها كورونا في باريس (يوميات شارع جابريئيل). يافا أساس "استعادة"، لكنّ غزّة امتدادُ لهما (الأساس والاستعادة). التوغّل في أشياء من ماضٍ قريبٍ (في الـ"يوميات"، يذكر مشهراوي تاريخ ولادته: 18 يناير/كانون الثاني 1962)، والسفر في رحلة العودة إلى أزمنةٍ قديمة (بدءاً من عام 1913)، يكتبان بالكاميرا سيرة فردٍ وحكاية وطن وتفاصيل متغيّرات، معظمها مفروضٌ بقوّة احتلال (إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين) وبسطوة وباء (كورونا). السيرة مكتوبة بسلاسة وتبسيطٍ، وبابتعادٍ عن كلّ زخرفة سينمائية، فالحكاية أهمّ، والتوثيق أهمّ، والاحتفاظ باللحظة الآنيّة، بتفاصيلها ورتابتها وتكرارها (الـ"يوميات")، نواة مطلوبة، وهدف يُرتجى تحقيقه.

صدفةٌ تمنح رشيد مشهراوي مادة بصرية تصلح لصُنع وثائقيّ، يُغذَّى بصُور فوتوغرافية، بالأسود والأبيض، ذات جودة فنية عالية ومُبهرة، تلتقط نبض حياة فلسطينية، بمختلف أشكالها ومروياتها ويوميات ناسها، قبل احتلالٍ يعجز، رغم آلته الحربية والأمنية والترهيبية، عن إلغاء تاريخ وذاكرة وبلدٍ وأرضٍ وشعبٍ. صُور مأخوذة من مصادر عدّة: فلسطين في الذاكرة، رائد دزدار، أحمد مروات، أرشيف الناصرة، أحمد داري، يافا أمّ الغريب، ذاكرة فلسطين الزراعية، مكتبة الكونغرس، مكتبة القدس الابتدائية، جمعية المحبة اليافية الخيرية، خميس حداد، مجلة "لايف"؛ بالإضافة إلى صحفٍ ومجلات فلسطينية صادرة قبل عام 1948.

غزارة الصُّور، التي تُكمِل مرويات طاهر القليوبي المسجّلة على شريط فيديو، تبدو كأنّها منبثقةٌ من حكاياتٍ يرويها الرجل بهدوء وحماسة في آن واحد، مع ابتسامةٍ توحي بصفاء وسكينة، لكنّها تقول قهراً وألماً.

في "استعادة"، يروي القليوبي ذاكرة وتاريخاً وعيشاً. عندما يذكر لحظتين اثنتين في سيرته وسيرة يافا وفلسطين، يشعر بغصّة تحول دون إكماله المرويّات: "حنجرتي تجفّ. لا أستطيع أنْ أتكلّم"، يقول، مُضيفاً أنّ حَلقه ينشف، وبلكنته اليافاوية الفلسطينية، يُكمِل: "ما بقدرش أتكلّم". الغصّة الأولى تحصل عندما يقول إنّ والدته من القدس؛ والغصّة الثانية عندما يروي سقوط يافا. يسرد شيئاً من زمن الخروج القسري. في الطريق، تقف الوالدة وتطلب من أولادها أنْ ينظروا إلى الخلف: "يا ولاد. اطّلعوا ع يافا وعبّوا عيونكم بيافا"، فبالنسبة إليها "الله أعلم" متى سيرون يافا مُجدّداً.

 

 

الصُّور الفوتوغرافية تلك، لبهاءٍ فيها منسوج بجماليات الأسود والأبيض، تكاد تخرج من أطرها وأزمنتها وجمودها، لما فيها من حيويةٍ، يكاد يصعب على التصوير الحيّ للّقطات نفسها أنْ يتفوَّق على بهائها وحيويتها. عالم متكامل من عيشٍ يومي في يافا، مع ناسها واشتغالاتهم ولحظات سكينتهم وأفراحهم ونضالاتهم وفرقهم الرياضية، وبطلهم في الملاكمة أديب الدسوقي، الذي سيغلب المصري محمد "الصخرة" فرج؛ مروراً بأقدم مطبعة في المدينة (1913)، وصالات السينما والحفلات الفنية والغنائية، المصرية غالباً. صنّاع أفلامٍ هم أبناء يافا، كإبراهيم سرحان ومحمد صالح الكيالي وأحمد حلمي الكيلاني وصلاح الدين بدرخان.

تقول الصُّور كثيراً، وطاهر القليوبي أيضاً، ومشهراوي يُمعن النظر في تلك الصُّور، التي فيها "حياة ولحظات عاشها ناس بكل ما فيها من ذكريات ومناسبات وحكايات". يقول إنّه، في كلّ مرة، يتملّكه شعور واحد، وسؤال واحد يتكرّر: "معقول؟". أيُعقل أنْ يحصل ليافا وأهل يافا "هذا كلّه"، مُشيراً إلى وحشية الإسرائيلي، المُدرك منذ البداية أنّ تحطيم إرادة الفلسطينيين بالبقاء والمواجهة ينبثق من كسر يافا وإخضاعها له.

فلسطين حاضرة في "يوميات شارع جابريئيل". تفشّي كورونا وحظر التجوّل والعزلة المنزلية منطلقات موحّدة لتصوير يوميّ لما يحدث في الشارع ومحيطه، أو بالأحرى لما لا يحدث. التكرار سمة. الوجوه نفسها. الروتين والأزقة والمدخل الضيّق للمبنى، وأصدقاء قلائل، وجيران أقلّ. لا شيء يحدث. هذا دافعٌ إلى تصوير يُكرّر رتابة الأشياء، ويُدخِل في التصوير لحظات ماضية، فرشيد مشهراوي فلسطينيّ، يُذكّر دائماً بأهوال يعيشها بلده. منع التجوّل بسبب كورونا يُشبه منع التجول الذي يفرضه الاحتلال على أبناء البلد. طلب "تصريح" للخروج من المنزل الباريسي يُشبه سردية الفلسطيني مع التصاريح والتفتيش الدائم في فلسطين المحتلّة. يستعيد مشهراوي لقطاتٍ من أفلامٍ له، كـ"حتّى إشعار آخر" (1993) و"توتّر" (1998)، ففيها ما يُشير إلى راهنٍ، وإنْ بشكلٍ آخر.

حظر التجوّل الباريسي بسبب كورونا يؤدّي بمشهراوي إلى مقارنةٍ، منبثقةٍ من انتمائه إلى فلسطين، رغم إقامته في باريس، المنتقل بينها وبين رام الله. الوباء يُساوي بين الناس جميعهم، ويضعهم في قاربٍ واحد. يقول ـ بلكنته الفلسطينية ـ إنّ الفلسطينيين مُقيمون في قاربٍ لوحدهم منذ 70 عاماً، ويغرقون لوحدهم منذ 70 عاماً، والجميع يتفرّجون عليهم. يُلمِّح، بمواربة جميلة، إلى التشابه بين وباءين: الأول متمثّل باحتلالٍ، والثاني بكورونا. يقول إنّ الجميع يُصبحون في قاربٍ واحد الآن، متسائلاً بما يشي بسخريةٍ مبطّنة: "ألأنّ الوباء مختلفٌ؟". فالجميع غير مكترث بوباء الاحتلال، في 70 عاماً.

الوثائقيان الجديدان يرسمان، بصُور وسردٍ، شيئاً من حكاية رشيد مشهراوي مع سيرته وبلده وتاريخه، ومع السينما والواقع والتبدّلات والعلاقات والصداقات.

المساهمون