هوليوود في مواجهة "ترامباليا"

24 نوفمبر 2024
نحن إزاء كوكتيل بالغ الانفجاريّة لرجل ذي سلوك اندفاعي (وِن مكنامي/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تبرز هوليوود كمعقل لمقاومة توجهات ترامب المعاكسة لقيم الحرية والديمقراطية، في ظل سيطرة الجمهوريين على السلطات الأمريكية، مما يمنح ترامب سلطة شبه مطلقة في سياق عالمي مضطرب.
- السينما تلعب دوراً مهماً في الأزمات الكبرى، كما فعل شارلي شابلن في "الديكتاتور العظيم"، وتعكس الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مثل فيلم "عناقيد الغضب"، مما يعبر عن روح المقاومة.
- رغم عدم شن ترامب حروباً في ولايته الأولى، إلا أن سياساته تهدد الديمقراطية، كما يظهر في فيلم "البداية"، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية.

قبل شهرين من تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية لفترة ثانية، تُجسّد هوليوود اليوم إحدى القلاع الأخيرة في بلاد العم سام لمقاومة المَدّ المعاكس لقيم الحرية وروح الديمقراطية، الذي يشكّله خطاب الملياردير السبعينيّ وبرنامجه الانتخابي، خاصة أنّ هذه الولاية الثانية ستجري في غياب ضوابط وتوازنات حقيقية، بعد فوز المرشّح الجمهوري في مجلس الشيوخ، واحتفاظ حزبه بالأغلبية في مجلس النواب، إضافة إلى الأغلبية المريحة التي يضطلع بها المعسكر المُحافظ في المحكمة العليا. إذاً، نحن إزاء كوكتيل بالغ الانفجاريّة لرجل ذي سلوك اندفاعي وغير متوقَّع، يحوز سلطة شبه مطلقة على رأس دولة عظمى، في سياق عالمي مضطرب وبالغ التوتّر، وفي ظلّ مجزرة فظيعة تجري في غزّة، وحروب مزمنة، وتضخّم جامح.

بلغة السينما، هذا تجسيد مثالي لنموذج سيناريو "شخصية استثنائية في وضعية استثنائية"، الذي يتلافاه كتّاب السيناريو غالباً، باعتباره يغرق في التقلّب، ويتعرّض بالتالي للتشتّت والافتقار للصدقية. لكنّ تاريخ السينما يؤشّر إلى أنها كانت دائماً في الموعد عند الأزمات الكبرى التي اجتازتها الإنسانية في القرن الماضي. ألم يُخرِج شارلي شابلن "الديكتاتور العظيم" (1940) في أوج الحرب العالمية الثانية، ليحاكي هتلر وطموحه المسعور ليغدو إمبراطوراً، بخطابه الهادف إلى إلهاب حماسة الجماهير بفحوى عنصري، وفرجويّة فجّة، سمة جميع الشعبويين، وآخرهم صاحب شعار "أميركا أولاً"؟ بفضل هذه المَعلَمة السياسية، ساعد شابلن في تعبئة الرأي العام في أميركا الشمالية لصالح الديمقراطيات الأوروبية، في وقتٍ كانت المملكة المتحدة تقاوم المدّ النازي وحدها، وشاءت المفارقة أنْ يُقدّم فيها من جسّد أعظم شخصية صامتة على مرّ العصور، وتردّد لسنوات في تبنّي السينما الناطقة، مونولوغاً عظيماً لا يزال مصدر إلهام إلى يومنا هذا، خاصة حين تُذكر المكننة التي وعدت البشرية بالوفرة، لكنّها تركتها في عوز، وكيف أنّ الذكاء الجاف وغير المتعاطف قاد البشرية إلى الكلبيّة، فبدا خطابه استشرافاً لطرح الملياردير إيلون ماسك (أحد أكبر داعمي ترامب والمرشّح لتعزيز فريقه بقيادة وزارة مستحدثة تُعنى بالكفاءة الحكومية) ومشاريعه "ما بعد الإنسانية" المشبوهة، التي تزعم تعزيز قدرات البشر عبر استخدام العلوم والتكنولوجيا.

ولأنّ تطوّر التاريخ يتبع نسقاً حلقيّاً خلدونياً، فما أشبه اليوم بحال العالم في عشرينيات القرن الماضي، حين استشرت الأزمات الاقتصادية، واتّسعت الفجوات بين طبقات المجتمع، وتغوّلت أجهزة قمع حريات التعبير والتظاهر. هناك فيلمٌ عُرض عام 1940 أيضاً، يُعدّ من الاستثناءات القليلة التي تمخّض فيها اقتباس تحفة أدبية إلى السينما عن تحفة فيلمية، يقبض جيداً على أجواء كارثة الكساد الاقتصادي الكبير الذي اجتاح أميركا عام 1929: "عناقيد الغضب" لجون فورد، عن رواية جون ستاينبيك بالعنوان نفسه (1939)، التي تسبر سراب الحلم الأميركي ومأساة ملايين المواطنين الذين دُمّرت حياتهم، وأضحوا عاملين رحّلا يتقاذفهم الجوع، واستغلال أصحاب رؤوس الأموال، وبطش السلطات. في مشهد مؤثّر، يقول توم جود (هنري فوندا)، أحد الرّحل، ردّاً على والدته التي تودّعه متسائلةً أين سيكون، وكيف لها أنْ تعلم ما سيحلّ به، فيبدو جوابه كأنّ السينما نطقت بلسانه، بضمير المتكلم، لتفرد برنامج مقاومة في فترة الأزمات: "ربما أنّ المرء، كما يقول كاسي، لا يملك روحاً خاصة به، بل مجرّد قطعة صغيرة من روح كبيرة ينتمي إليها الجميع. عندئذ، لا يهمّ أين سأحلّ. سأكون في مكان ما وسط الظلام. أينما كانت هناك معركة كي يأكل الجوعى، سأكون هناك. أينما كان هناك شرطي يضرب رجلاً، سأكون هناك. سأكون في الطريقة التي يصرخ بها الرجال عندما يغضبون. سأكون في الكيفية التي يضحك بها الأطفال عندما يكونون جائعين، ويعرفون أنّ العشاء سيجهز قريباً، وأينما يأكل الناس مما يزرعون ويعيشون في المنازل التي يبنونها، سأكون هناك أيضاً".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

كثيراً ما يُساق أنّ ترامب لم يشنّ أيّ حرب في ولايته الأولى. ننسى أنّه قام، عبر سياسته الكلبيّة والانتهازية، بالأدهى: تجفيف منابع الأمل، وتجريف قيم ومعاني الممارسة السياسية والاقتصادية والبيئية. هذا بمثابة تمهيد طريق لأفظع الحروب والكوارث الطبيعية. عام 1986، أطلق صلاح أبو سيف "البداية" (سيناريو لينين الرملي)، الذي يقتفي ركّاب طائرة نجوا من سقوطها في واحة نائية. يسعى الناجون إلى إقامة نظام يحكم مجتمعهم الصغير، فينشأ صراعٌ بين معسكر يقوده رجل الأعمال الثري نبيه (جميل راتب)، الذي يحاول بسط سيطرته للاستئثار بالموارد والاستفراد بالسلطة، والمثقّف عادل (أحمد زكي)، الذي يصارع لتطبيق مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

بغضّ النظر عن الوضعية الأولية، التي تبدو كاستشراف لمسلسل "ضائعون" (Lost) المرجعيّ، لا يُمكن لمن يُشاهد الفيلم اليوم، أو يعيد اكتشافه، ألاّ يلاحظ التقاطعات المذهلة بين شخصية نبيه ودونالد ترامب. انطلاقاً من استخدام الديمقراطية، لتمرير إجراءات باطنها ديكتاتوري، مروراً بتأليب فئة من المجتمع ضد أخرى عبر قلب الحقائق (المشهد الشهير الذي ينعت فيه نبيه عادل بديمقراطي، وينطقها كأنّها مرادف للكفر، أمام اندهاش الفلاّح مقابل إيديولوجيا الأخبار الزائفة التي تُشكّل عصب خطاب ترامب)، وصولاً إلى استعدادهما لحرق كلّ شيءٍ في حالة خسارتهما اللعبة، كما حدث عندما كاد تأليب "الرجل البرتقالي" لمؤيديه أنْ يؤدّي بأميركا إلى حربٍ أهلية طاحنة، عقب خسارته انتخابات 2020.

"نبيهاليا" اسم أطلقه رجل أعمال "البداية" على ديكتاتوريته الصغيرة وسط الواحة. فهل يسعى ترامب، في ولايته الثانية (بعد أنْ أطلق اسمه على البرج الشاهق الذي أقامه في قلب نيويورك)، إلى وضع حجر أساس نظام حكم جديد، أو نوع من "ترامباليا"، يُشكّل، بحسب مفكّرين عديدين، محطة فارقة في بداية أفول الحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة؟ كلّ شيءٍ ممكن مع شخصيةٍ تجعل من الحماقة واللاتوقّع أسلوب حياة. لكنّ المؤكّد أنّ السينما "ستكون هناك"، بمعنى المونولوغ الأثير لتوم جاد.

المساهمون