هل تُخوّل "غونكور" نقدَ فيلمٍ سينمائيّ؟

07 ابريل 2021
ليلى السليماني: كلام لا يخدم الفيلم (هانِّلور فويرستر/ Getty)
+ الخط -

في كلّ حديثٍ عن الكاتبة والصحافية الفرنوكوفونية، مغربيّة الأصل، ليلى السليماني، يُشار إلى أنّها الكاتبة المغربيّة الثانية الحاصلة على جائزة "غونكور" الفرنسية (2016)، بعد 29 عاماً على فوز الطاهر بنجلون بها (1987). كأنّ ذكر الجائزة الأدبيّة سيمنحها، رمزياً، "جواز مرور" إلى أنْ تغدو ناقدة سينمائية في عرضٍ مُباشر، أقامته "جمعية اللقاءات المتوسّطية للسينما وحقوق الإنسان (ARMCDH)"، لمُناقشة فيلم "نورة تحلم" (2019)، للتونسية هند بوجمعة، في 26 مارس/ آذار 2021.

للكاتبة قدرة هائلة على الحكي واللعب على أوتار السرد، وإنْ كانت مواضيعها سطحيّة، نظراً إلى ما يعرفه الواقع المغربي من شروخ ومآزق وتبدّلات. كما أنّ الحديث عن السينما حقٌّ مشروع، وهذا من حسناتها، إذْ بدأت في الآونة الأخيرة، مع وسائل التواصل الاجتماعي، تُكسِّر الدور القديم للنّاقد، الوحيد المُؤهّل للحديث عن الأفلام وصناعتها ومُتخيّلها. هذا ضروري. لكنْ، للمُدوّنين رأيٌ أيضاً، يختلف وعيه وتأثيره بتفاوتات ثقافية ودرجات أيديولوجية مختلفة. غير أنّ هذا الرأي يبقى "تعليقَ عاشقٍ" عن فيلمٍ أو شخصية أو حوار أو صورة.

حالة ليلى السليماني مُغايرة. فهي روائية، ما يجعل تعليقها عن السينما ممكناً، من ناحية علاقة السينما بالأدب. لكنّ الطريقة التي تُقدَّم بها لمناقشة فيلمٍ مُربكة، فهناك نقاد عرب كثيرون لديهم مهارة عالية في التحليل، واطّلاع كبير على التاريخ السينمائيّ، ما يمنحهم إمكانية الحديث عن فيلمٍ ومناقشته، بالإضافة إلى تفكيك يقينيّاته وميثولوجياته، وإبراز ما فيه من آفاقٍ فنية وجمالية، تأليفاً وإخراجاً.

الناقد السينمائي يمتلك دائماً معايير جمالية ونظريات تُسعفه على تشريح خطاب الفيلم، سياسياً واجتماعياً وتقنياً وجمالياً. هذا عامل مهم، لا تتوفّر عليه ليلى السليماني. يبدو ذلك واضحاً في مُناقشتها الفيلم. فالاقتصار على الموضوع، سياسياً واجتماعياً، ليس نقداً. النقد مُطالبٌ بتشريح يستند أساساً على مفاهيم فكرية ونطريات جمالية، تُمكّن المرء من رفع منسوب التحليل، وفهم تدرّجات الصورة وسياقاتها ومدى تشابكها مع الواقع، وحجم تغلغلها في الذاكرة والاجتماع، بدلاً من إسقاط النظرية على الفيلم، مع ضرورة استلهام مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، كمُحاولة لإضاءة المنسيّ في الصورة السينمائية، أو ما يُسمّى عادة في الأدبيّات الفكرية بـ"اللامُفكَّر به"، الذي يُميّز مفهوم النقد السينمائي، باعتباره خطاباً مُركّباً، يُضمر في طيّاته تواشجاً بين الكتابة الأدبيّة وزخمها والقراءة التحليلية السوسيولوجية، التي تُحيل المَشاهد إلى سياقاتها الاجتماعية، وصولاً إلى قراءة فكرية، تجمع هذه العناصر في وحدة فسيفسائية، تمزج الحميميّ بالتحليلي والفكري والتاريخي.

مُتابعو النقاش، الحاصل بعد عرض "نورة تحلم"، يُلاحظون عن كثب عدم قدرة ليلى السليماني على تفكيك الفيلم سينمائياً وجمالياً. فهي تقف عند حدود موضوع التحرّر وأهميّته في البلاد العربيّة، محاولة التطرّق إلى شخصيات الفيلم، ومقارنة ذلك بنماذج مغربيّة، بطريقة أضحى الفيلم معها منسيّاً.

كما تحوّل الحديث إلى مواضيع التحرّر والجنسانية، لكنْ في العلاقة بالمجتمعات المَغاربيّة، لا بالفيلم. هذا عاملٌ مهمّ، جعل منطلقات السليماني فارغة في أساسها، لاستنادها إلى حديثٍ إعلامي وقصص تستلّها من الواقع المُعاش.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

صحيحٌ أنّ لـ"نورة تحلم" علاقة حميمة بواقع كهذا. لكنّ السليماني لم تنتبه إلى أنّ الفيلم، في هذه الحالة، يغدو مُستقلاً عن الواقع، بصناعته الفنية والجمالية، التي تُوجّه النقد السينمائي، وتجعله مختلفاً عن النقد الأدبي. لم ترد مفردات صورة وسيناريو ومونتاج في حديثها، المتقوقع في الموضوع، الذي بدوره بقيَ محصوراً في الحاضر، علماً أنّ التحرّر في السينما التونسية تتحكّم فيه تراكمات تاريخيّة، ساهم في صوغها سينمائياً مخرجون عديدون منذ عام 1966، بدءاً من التنصّل من تراث السينما الكولونيالية، وإعطاء قيمة أكبر للإنتاج الوطني، الذي أخذ على عاتقه مفهوم التحرّر لدحض الترسّبات التنميطيّة الاستعمارية في قضايا مرتبطة بالتاريخ والوطن والوجود والجسد.

هذه السياقات التاريخيّة، التي تتحكّم بمسار السينما التونسية، ظلّت غائبة في حديث السليماني. سياقات تتيح للناقد أو الباحث أو الصحافي فهم المَداخل الفكرية الحقيقية الخفيّة، المتحكّمة بأيّ مُنتج سينمائيّ، خاصّة حين يتعلّق الأمر بالسينما المَغاربيّة، التي لم تخرج ـ قديماً وحديثاً ـ في اشتغالاتها الفنية، وطرائق تشكّل أنماط صُورها الجمالية، من مواضيع التاريخ والهوية والجسد والتحرّر.

الجري وراء الموضوع وتمثّلاته لدى ليلى السليماني لا يخدم الفيلم، وما فيه من صناعة فنية، بل يسيء إليه ضمنياً، لكونه فيلماً مُكثّفاً، يشتغل بنَفَسٍ تفكيكي وازن، على مستوى مخاتلات السرد وفتنة الحكي، وقدرة هند بوجمعة على التنصّل من الحشو البصري للحكاية وعموميتها وتجذّرها في نفوس شخصيات محدّدة. فهي تحوّل حكاية واقعية إلى نصّ بصريّ مُتخيّل، تُصبح فيه الحكاية سيرة المرئيّ، وتظلّ في بعض مَشاهده مرتبطة بالواقع التونسي. من جهة أخرى، تصنع الحكاية علاقة إنسانية، تكتسح الشروط الاجتماعية والمواضِع القانونية، من دون أن تُقيّدها بوجمعة بأيّ شرطٍ هوياتيّ أو سياج محلي. بنيّة إنجاح قصّة حبّ حقيقيّ، جعل نورة (هند صبري) امرأة كادحة، تستعيد بعض زخم حلم العيش مع أطفالها، بعيداً عن سجّل إجرامي مُربك لزوجها السابق، الذي يُعيق حياتها الحاضرة، ويجعلها من دون معنى يُذكر.

لذا، وتعليقاً على مداخلة ليلى السليماني، هناك إلحاحٌ على ضرورة الحرص على الشرط التاريخيّ في قراءة "نورة تحلم"، الذي (الشرط التاريخي) يُوجّه الفيلم داخلياً وجمالياً، ويُؤطّره بعنصر التحرّر، الذي رافق السينما التونسية منذ نهاية سبعينيات القرن الـ20. خيباتٌ وتصدّعاتٌ وقلاقلٌ، عملت الفيلموغرافيا التونسيّة على استعادة عوالمها الواقعية في متونٍ سينمائية، لا تزال تحتفظ ببريقها الفني وحساسيتها الجمالية، في علاقة السينما المَغاربيّة بالتحرّر الإنساني، وبالتمزّق الاجتماعي الذي كرّسه الاستعمار في سياسته في المنطقة المغاربيّة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

السينما التونسيّة ثارت على كل أشكال هذه التنميطات الاستعمارية، من خلال الصورة، ما أنتج أفلاماً عدّة تنضوي في مشروع سينما وطنية، تسعى إلى التخلّص من الاستعمار وأفكاره في السينما الكولونيالية، كشأن هند بوجمعة في "نورة تحلم"، وثورتها على قوانين وسلوكات وعادات، لتحرير امرأة، ولتأكيد حقّها في العيش، أمام واقع تونسيّ يُقزّم حريتها ويحدّ منها.

المساهمون