هشام شربتجي... مخرج من هذا الزمان

17 مايو 2023
بدأ تجربته الإخراجية في مسلسل "مرايا" (فيسبوك)
+ الخط -

برحيل المخرج السوري هشام شربتجي (1948 - 2023)، أمس، يغيب عن الدراما السورية أحد أبرز صانعي الأعمال الكوميدية السورية.
هشام شربتجي، الذي يلقبه الوسط الفني بـ"شيخ الكار"، قدم مجموعة من أفضل المسلسلات وأكثرها شعبيةً منذ مطلع الثمانينيات؛ والكثير من مسلسلاته يتعامل معها السوريون كالخبز اليومي، فهم يشاهدونها ويعيدونها باستمرار.   
عن بداية هشام شربتجي في عالم الإخراج التلفزيوني، يشير ياسر العظمة في شهاداته الأخيرة التي نشرها على "يوتيوب"، إلى أنه طرح مشروع "مرايا" على صديقه شربتجي الذي درس الإخراج الإذاعي في مصر، ليبدآ معاً بسلسلة "مرايا" عام 1982، بعد تردد شربتجي وشكوكه بقدرته على الإخراج الفنون السمعية – بصرية. سكتشات "مرايا" القصيرة كانت حقل التجارب الأول الذي مارس فيه شربتجي فن الإخراج ليختبر فيه إمكانياته.
نجحت "مرايا"، وواظب الثنائي على شراكتهما لإنتاج جزء من السلسلة كل عامين طوال فترة الثمانينيات. وفي نهاية تلك الحقبة خرج شربتجي من ظل ياسر العظمة أخيراً مع مسلسل "البناء 22" (1990). في هذا المسلسل، بدأت تنضج هوية شربتجي الفنية، وتتكشّف ميزته الأبرز في عالم الإخراج التلفزيوني؛ إنه الرجل الذي يعرف كيف يخلق كيمياء بين كل المشاركين بالعمل، ويعرف جيداً كيف ينقل الأجواء الحميمية والروح الجماعية الجميلة من وراء الشاشة إلى أمامها. 
وما بين "مرايا" و"البناء 22"، ظهرت ملامح الكوميديا التي يتبناها شربتجي والخط الفكري الذي واظب على تطويره قرابة عقدين، واقترن بأنماط اجتماعية معاصرة، غالباً ما تجد صعوبة بالاندماج مع شكل المجتمع الجديد، بعضها يبدو مصاباً بلوثة النوستالجيا، والآخر يبدو أكثر اندفاعاً نحو كل ما هو جديد وحداثي وغربي ومتطور. وبالتقاء هذه الشخصيات، تتولد المواقف الكوميدية الفاقعة، التي تزيد جرعة الهزل فيها الأزياء والموسيقى، وكل العناصر الرديفة التي تساهم بتغريب الحكاية عن الواقع، لتكون النتيجة ساعات من الدراما المسلية وسريعة الإيقاع، التي تنطوي على جانب نوستالجي عميق. 
يبدأ "البناء 22" بالحديث عن شكل العمارة الجديد الذي غزا دمشق، وحل مكان العمران القديم للمدينة. الناس يرغبون اليوم بالعيش في علب كبريت متراصة، وذلك أدى إلى تأزم العلاقات الاجتماعية، رغم التزاحم الذي أفضى إلى فقدان الخصوصية، ليكون بطل المسلسل، ناطور البناء (بهلول)، الشخصية التي تكسر بنية العلاقات الاجتماعية وتعيد صياغتها.
وفي عام 1994، بدأ شربتجي بسلسلة "عائلة النجوم"، ليقدم أول مسلسل كوميدي سوري بطولته نسوية، بالشراكة مع النجمة سامية جزائري. في موقع تصوير واحد، وبكاميرا واحدة فقط، وبعدد محدود من الممثلين، قدم شربتجي سلسلة لاقت رواجاً جماهيرياً كبيراً، تلتف بطرق ملتوية لتقدم المقولة ذاتها. ففي كل جزء ينتهي المسلسل بفقدان البيت وبنهاية حقبة؛ فالمدينة تتخلى عن أهلها. والنوستالجيا للبيت والحياة البسيطة، هي جزء من كل عناصر المعادلة؛ نحن نقرأ ذلك حتى بأكثر الأجزاء اغتراباً عن الواقع. في "عيلة ست نجوم" (الجزء الثاني) الذي تعيش فيها عائلة محدثة النعمة في بيت فاخر، يُعاد تشكيل علاقات بذات الشكل السوري التقليدي، فالأسرة كلها تعيش تحت سقف واحد، أي في شقة بالطابق السابع بدلاً من البيت العربي. والشخص صاحب المكانة الأعلى في البيت هو امرأة وليس رجلاً. وفي ملامح العائلة الكثير من العبثية والثورية.
في عام 1995، بدأ شربتجي بالعمل مع أيمن زيدان ليقدما سلسلة من المسلسلات الكوميدية المختلفة، التي تنتقد بشكل أكثر وضوحاً الحياة في سورية، من خلال اللعب في مساحة الحياة اليومية الخاصة لشخصيات المسؤولين في الدولة. البداية كانت مع مسلسل "يوميات مدير عام"، الذي استطاع فيه الثنائي من خلال تقاطعات الخاص والعام أن يقدما لوحة درامية عن الفساد في سورية.
المسلسل يُركّز على المسؤول الصالح، لكن التعامل معه باعتباره الاستثناء الذي يشُذ عن القاعدة هو بحد ذاته انتقاد ملتو لكل مؤسسات الدولة السورية في وقت كانت الدراما لا تزال عالقة في عباءة الإقطاعيين، والعلاقات الخاصة في الدراما لا تتقاطع مع الحياة العامة سوى عندما يتعلق الأمر بشخصيات البكوات وزعماء الحارات. 
السلسلة تم استكمال ثاني أعمالها عام 1997، بمسلسل "يوميات جميل وهناء". العمل الذي كان له الدور الأكبر بفتح بوابات المحطات الفضائية العربية أمام الدراما السورية. ورغم أن الحكاية العامة تبدو بعيدة عن النقد السياسي، من خلال التركيز على قصة جميل الحمصي الذي يحاول يائساً جعل زوجته هناء تغار عليه؛ لكن الإشارة إلى أن جميل يشغل ذات الوظيفة (مدير عام) يضيف أبعاداً كثيرة للحكاية، التي جعلت من "يوميات مدير عام" حجر الأساس الذي ترتكز عليه.

هنا، يبدو أن المسؤول في الدولة هو شخص تافه، يُبدّي الرغبات والدوافع الشخصية على المصالح العامة؛ إنه ليس الاستثناء، وربما ليس القاعدة، لكنه نموذج عن الشخصيات التي تتسلق الهرم الوظيفي.
في عام 1999، جاء الجزء الثالث من السلسلة، "بطل من هذا الزمان"، وفيه تم التركيز على شخصية موظف في قاع الهرم الوظيفي هذه المرة، ليتيح لنا مشاهدة هذه المسلسلات توالياً رسم صورة عامة عن هيكل الدولة، التي ينخر الفساد كل أوصالها، ولا عدالة فيها ولا تتكافأ فيها الفرص. هكذا، يأتي الجزء الرابع والأخير من السلسلة "أنت عمري"، (2001)، الذي يقدم ذات العالم برؤية متخيلة، توضح أن الموظف في الدولة لا يمكن أن يعيش حياة كريمة من دون أن يكون فاسداً إلا إذا ربح كل شهر عدة جوائز مالية من أوراق اليانصيب، وعلب المحارم والبرامج التلفزيونية.
وبدا شربتجي مهتماً بكسر الاحتكار عن الكوميديا السورية، فقدم وجوهاً جديدة، ومنحها أدوار البطولة، أبرزها عبد المنعم عمايري في مسلسل "مبروك". وكان آخر مسلسلات هشام شربتجي الكوميدية هو "أزمة عائلية" عام 2017... وكان خاتمة باهتة لا تليق أبداً بمسيرة عراب الكوميديا السورية. 

المساهمون