ليست فترة قصيرة تلك التي مرّت على اختفاء شريط الكاسيت من الحياة الفنية، بعدما ظل لعقود الوسيلة السهلة والرخيصة لاستعادة أي أداء صوتي، من أغنيات، كلاسيكيات وشعبيات، موالد وحفلات، تلاوات وابتهالات... فمع اتساع انتشار أجهزة الكومبيوتر، وظهور الوسائط الرقمية، وما يعرف بالأقراص المدمجة، والقدرة على تحويل أي تسجيل صوتي من الأسطوانات والشرائط إلى نسخ رقمية يمكن نقلها وتبادلها بأيسر السبل، ومع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، انتهى دور شريط الكاسيت، إلى درجة أن مواليد عام 2000، الذين هم الآن في المرحلة الجامعية، لا يكادون يعرفون ما هو شريط الكاسيت أصلاً، ولا كيفية تشغيله.
لكن أحداً لم يكن يتوقّع أن ينبعث الكاسيت من مرقده، وأن يبدأ من جديد في جمع الأنصار والمعجبين، بعد غياب تجاوز عقدين من الزمان، وهي مدة كانت كافية للاطمئنان إلى انتهاء فكرة الاستماع من "الشريط". فمنذ 12 عاماً، قرر القائمون على قاموس إكسفورد للغة الإنكليزية إخراج كلمة Cassette Player (مسجل كاسيت) من نسخة القاموس. وقبل ذلك بعام، أوقفت شركة سوني تصنيع مشغل الكاسيت المحمول الشهير (ووكمان)، بعدما دخل العالم عصر الرقمنة، وتحولت ملايين الأعمال الفنية إلى صيغة MPC الشهيرة.
في البلدان العربية، بدأت تروج بين الهواة تجارة شرائط الكاسيت، الذي يتحدّد ثمنه وفقاً لندرته وأهمية المادة التي يحملها. في القاهرة يحرص بعض الهواة على اقتناء نسخ من أغنيات مسجلة على الكاسيت. يقولون إن الاستماع إلى أم كلثوم أو عبد الوهاب من الشريط له مذاق مختلف، كما يحرص كثيرون من جيل التسعينيات على الاحتفاظ بمجموعات كاملة لعمرو دياب أو محمد منير أو علي الحجار، أو حميد الشاعري. يرون أن الكاسيت يعيدهم إلى أجواء صدور هذه الأغنيات، وإلى لحظات انتظار "الألبوم الجديد".
ويرى كثير من محبّي الغناء الشعبي وقصص الموالد أن شريط الكاسيت هو الوسيلة المفضّلة للاستماع إلى التراث الشعبي. يقول محمود الأسواني إنه بعد سنوات من التعامل مع النسخ الرقمية أخذه الحنين إلى الكاسيت، ويضيف: "لم أعد أستمع إلى خضرة محمد خضر، أو جمالات شيحة، إلا من خلال الكاسيت كما كنا نفعل في الماضي. الشريط بذاته وبغلافه يعين على استحضار ذكريات محببة. لا أتصور الاستماع إلى فاطمة عيد، وسيدة غريب، وفاطمة سرحان، وبدرية السيد إلا من خلال كاسيت، أشاهد بعيني بكراته وهي تدور في جهاز قديم".
اتساع الحنين إلى الكاسيت تفاعل بين الهواة، وفي منطقة مصر الجديدة في القاهرة، فتشكل ما يعرف بـ"نادي الكاسيت"، وأطلق أولى فعالياته في يوليو/ تموز الفائت، بالإعلان عن لقاء مفتوح للاستماع إلى الأغاني من خلال الشرائط القديم. وأوضح المنظمون في الدعوة أن اللقاء يستهدف الابتعاد عن أجهزة الهواتف النقالة، ونسخ "الديجتال".
في العام الماضي، أصدر الباحث الأميركي أندرو سايمون؛ المؤرخ المختص لشؤون الإعلام والثقافة الشعبية في الشرق الأوسط والمحاضر في كلية دارتموث في ولاية نيو هامبشاير الأميركية، دراسةً مهمة طبعتها دار نشر جامعة ستانفورد، بعنوان "ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة"، رصد فيها ملامح الدور الذي لعبه شريط الكاسيت في تاريخ مصر الفني والسياسي والاقتصادي، باعتباره من وسائل قياس تحسن الحياة الاقتصادية، ولكونه من أسباب استدامة دفء العلاقات بين الأحبة وأفراد الأسرة. كذلك رصد دور الشريط في انتشار الموسيقى، وظهور جيل جديد من المطربين.
رصد سايمون دور الكاسيت في صعود اسم المطرب الشعبي محمد عدوية، وكيف استطاع بهذه الوسيلة أن ينتشر بين مختلف طبقات الشعب المصري، ما جلب عليه هجوماً واسعاً من كبار الفنانين وقتها، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب، ثم تراجع موسيقار الأجيال، وتفاوض مع عدوية للانضمام إلى شركة صوت الفن التي يملكها موسيقار الأجيال وعبد الحليم حافظ.
وأشارت الدراسة إلى توجه كثير من التجار وأصحاب القدرة المالية للاستثمار في سوق الكاسيت وكيف كانت بعض محلات الجزارة مثلاً أو الأسماك تغير نشاطها، وتتحول إلى شركة لإنتاج الكاسيت وتوزيعه، حتى تضاعف عدد شركات الإنتاج من 20 شركة عام 1975، إلى 365 عام 1987، و500 شركة بحلول عام 1990.
ومن أهم المفارقات التي يرصدها الباحث الأميركي أن ردود الفعل الكبيرة والمضادة لأحمد عدوية وما يقدمه، وانتقاد كبار الكتاب والصحافيين أغنياته، شكلت ضغطاً على الدولة، التي تحركت بتنشيط شركة صوت القاهرة، لتكون سلاحها في مواجهة "الموجة الهابطة"، لكن بعد فترة، ومع التأكد من الانتشار الجماهيري الساحق لعدوية، استحوذت شركة صوت القاهرة على حقوق أغنيات صاحب "السح الدح امبو"، وصارت منافذها أماكن معتمدة لبيع شرائطه. ما حوته الدراسة من رصد فني واجتماعي يؤكد أن الكاسيت يمثل جزءاً مهماً من ذاكرة المصريين، يصعب طمسه أو التخلي عنه بالكلية.
وفي إمارة الشارقة، ما زال التاجر محمد عبد الله خليل يمتلك أكثر من مليون شريط كاسيت، يبيعها للهواة، لا سيما المهتمين بالتراث الشعبي الإماراتي والخليجي عموماً... ويؤكد خليل أن اهتمام الجيل الجديد من الشباب والفتيات بحيازة الكاسيت وأجهزة التسجيل القديمة في ازدياد مضطرد. وفي العاصمة الأردنية عمّان يعرف الهواة جيداً محل توفيق محمد، الشهير بأبو فؤاد، الذي يوفر التسجيلات النادرة لطالبيها، وأصر على الاستمرار في تجارة أشرطة الكاسيت، رغم الهيمنة الإلكترونية. يرفض أبو فؤاد أن يتخلص من مجموعته الكبيرة من الشرائط، أو أن ينهي تجارته، ويؤكد أنه يستمتع بالجلوس وسط الأشرطة المرتبة على أرفف تغطي جدران محله الصغير.
وإذا كانت عودة الكاسيت في الدول العربية تسير ببطء نسبي، فإنها في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تتخذ وتيرة أسرع، ولعل بريطانيا تمثل النموذج الأوضح لهذه العودة، فالإقبال على شرائط الكاسيت فيها يتزايد بنسب كبيرة من عام إلى آخر، ومنذ نحو عامين تخطّى معدل الإقبال على الكاسيت نسبة 125%، وفقاً لبيانات صادرة عن هيئة صناعة الصوتيات البريطانية، التي أكدت أن أكثر من 50 ألف شريط يباع سنوياً في المملكة المتحدة، ولم تبطئ جائحة كورونا عام 2020 من بيع الكاسيت في بريطانيا، بل ربما كانت سبباً في زيادته، إذ بيع في هذا العام 65 ألف شريط.
في الولايات المتحدة، ارتفع مستوى الإقبال على الكاسيت، وفي عام الجائحة بيع 220 ألف شريط، كما قرر فنانون وعازفون ومؤلفون موسيقيون إعادة إصدار إنتاجهم على شرائط كاسيت، كما صدرت الموسيقى التصويرية لفيلم "حراس الغابة" على شريط. ويأخذ التسابق على اقتناء شرائط الكاسيت في الولايات المتحدة بعداً إضافياً، يتمثل في جمع الأغلفة القديمة والتصاميم المميزة التي كانت تميز علبة شريط الكاسيت.
تزايد الإقبال على الكاسيت في أوروبا دفع شركة "مولان" الفرنسية إلى إعادة إنتاجه من جديد، وتوريده إلى أكثر من 30 بلداً، بعد توقف استمر لعشرين عاماً، وفقاً لتصريحات المدير التنفيذي للشركة جان لوك رونو، الذي وصف الإقبال على اقتناء شرائط الكاسيت بالأمر غير المتوقع.
وفي اليابان، بدأت العودة إلى الكاسيت مبكراً، وتحديداً منذ عام 2010، ومع تزايد الإقبال افتتح تارو تسنودا متجراً لبيع الأشرطة في قلب طوكيو، بعدما رصد عودة بعض الفنانين اليابانيين لإصدار أعمالهم من خلال الكاسيت.
يفتخر تسنودا بامتلاكه 6 آلاف شريط، ويرى أنها تمثل جزءاً من ثقافة موسيقية جديدة تتسع يوماً بعد يوم. ويرى المؤلف الموسيقي وعازف الجيتار الياباني ريوتارو أوكي، عضو فرقة Looprider، أن شرائط الكاسيت بدأت تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب الذين يستمعون إلى "الموسيقى المستقلة"، ويفسّر أوكي في تقرير نشرته شبكة CNN أسباب هذا الإقبال بميل الناس إلى امتلاك الموسيقى في صورة مادية محسوسة تلمس وتشاهد.
يحتفل العالم هذا العام بمرور 60 سنة على ظهور شريط الكاسيت، على يد مبتكره الهولندي لو أوتنز، الذي توفي في مارس/آذار 2021، بعدما باع اختراعه 100 مليار قطعة. كان أوتنز يعمل مهندساً في قسم تطوير المنتجات في شركة فيليبس، ومنذ عام 1960، انخرط بكل قواه في محاولة تطوير شريط لتسجيل الصوت، وبالفعل، عرض ابتكاره للمرة الأولى في معرض برلين لإلكترونيات الإذاعة عام 1963. هيمن الكاسيت على العالم لأكثر من أربعة عقود، ثم اختفى وكاد يندثر تماماً مع انتشار الحواسيب والرقمنة.. لكن "النوستاليجيا" نفخت فيه من روحها، فبعثته من جديد.