نور الدين لخماري مُكرّماً في تطوان: بحثٌ سينمائيّ عن الخلاص

07 يوليو 2022
نور الدين لخماري: تقطيع فني حيوي وإيقاع مشدود (فاضل سِنّا/فرانس برس)
+ الخط -

قبل أنْ يتسلّم نور الدين لخماري تذكار التكريم الجميل لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، في دورته الـ27 (10 ـ 17 يونيو/حزيران 2022)، مع تصفيق الحاضرين في حفلة الافتتاح، عُرض فيلم مونتاج قصير للقطات من أفلامه الطويلة الأربعة، نجح في التقاطِ بُعدٍ أساسي من طرحه الاجتماعي والجمالي، يتمثّل أساساً في العزلة التي تلفّ شخصياته، بفعل تغرّبها في وسطٍ موبوء بالاختلالات والفساد المستشري في أوصال المجتمع.

ينتمي لخماري إلى جيل المخرجين الذين تمرّنوا على أبجديات السينما في المهجر، رغم ولادته (1964) وترعرعه في مدينة "آسفي" الساحلية، وسط المغرب، قبل أنْ يهاجر إلى النرويج في ثمانينيات القرن الـ20 ليدرس الصيدلة، لكنّه انتقل إلى دراسة السينما من دون أنْ يجرؤ، بداية، على مصارحة عائلته ومحيطه باختيار القلب والشغف هذا، توجّساً من معارضتهم، ما يُذكّر بوضعيات أفلامه، حيث تنثني رغبات الفرد تحت ضغط مجتمع محافظ وتقليدي النزعة.

تبدّت موهبة لخماري منذ أفلامه القصيرة المُنجزة في النرويج، كـ"مولود بلا زلاجة في الأقدام" (1996) و"صبي الصحف" (1997)، التي حصدت جوائز عدّة، وأفصحت باكراً عن لمسة تقطيع فني حيوي، وإيقاع مشدود، من دون أنْ يفرّط في عمق طرح إنساني، يتبلور بفضل وضعيات مفارقة، لا تخلو من سخرية وقتامة. لكنّ تتويج "مذكّرات قصيرة" (1995) في الدورة الـ4 (2 ـ 9 ديسمبر/كانون الأول 1995) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة"، حين فُتح للمرّة الأولى باب المشاركة للمخرجين المغاربة المولودين في المغرب أو المستقرّين خارجه، أعلن عن عودته، رفقة سينمائيين شباب، كنبيل عيوش وإسماعيل فروخي ونرجس النجار وحسن لجزولي، بثوا نَفَساً مُجدّداً في الحقل السينمائي المغربي.

قدّم لخماري أوراق اعتماده بفضل فيلمه الطويل الأول "النظرة" (2005)، الذي يفرد، منذ مقترحه السردي، نظرةَ عائدٍ من الخارج، ونوعاً من التبئير المرآوي المقلوب لوضعية مخرجه، من خلال قصة مُصوّر فرنسي، يسعى ـ في خريف حياته ـ إلى تنظيم عرضٍ لصُوره، لكنّ ذكريات شبابه كمُصوّر حرب، إبان الاستعمار الفرنسي للمغرب، تجتاحه، فيقتنع أنّ عرض مُنجزه الفوتوغرافي من دون هذه الصُور سيكون نوعاً من انعدام الأمانة، فيبحث عنها في المغرب، مُستذكراً مقاطع من ماضٍ مؤلم، صنع منه شاهداً عاجزاً على فظائع الاستعمار وجرائمه.

عملٌ بدا نوعاً من تمهيد الطريق لـ"كازانيغرا" (2008)، الذي أعلن عن لخماري مُخرجاً يتوجّه إلى جمهور أوسع، مسكوناً بالتعبير عن تناقضات المجتمع المغربي، عبر طرح جريء، وواقعية لا تنحصر في جانب لغة الشخصيات، كما تُختزل عادة، بل تتجاوزه إلى مجهود كاستينغ، وصدقيّة الفضاءات المتوغّلة في ليل الدارالبيضاء وجانبها الموحش، بعيون شابين يسعيان إلى التفلّت من براثن البطالة وانسداد الأفق، عبر امتهان السرقات الصغيرة، في انتظار الحصول على فرصة الهجرة إلى الخارج، بالنسبة إلى الأول، والعثور على حبّ يغرق فيه الثاني إحباطات حياته العملية.

فيلمٌ بإيقاع جذاب ونظرة نافذة، تستخلص فسحات حلم من وسط مظاهر القبح، والعكس، وفق طموح إنجاز سينما لا تشيح بوجهها عن الاختلالات، مجازفةً بوضع مرآة تعكس وجه المجتمع في كلّ حالاته، يتبنّى فيها لخماري جمالية اقتباسٍ، تظهر تأثّراً لا تُخطئه العين بسينما هوليوود الجديدة، كما يبدو في مشهد المونولوغ الداخلي، الذي يقتسم فيه عادل (عمر لطفي) كل ما يزعجه في سلوكات البيضاويين، ما يُذكّر بمشهدٍ يُطلق فيه الصوت الداخلي لإدوارد نورتن نار الانتقاد على كلّ الفئات المجتمعية في مانهاتن ("الساعة الـ 25" لسبايك لي، 2002).

كما التقط في "كازانيغرا" أحد أجمل بورتريهات الدارالبيضاء في السينما المغربية، حين صوّر بكاميرا ذات زاوية منخفضة البنايات البيضاء، مُخلّداً روائع هندسة "الآرديكو"، وجاعلاً من قتامة الفضاء وسيطرته على أفق الشاشة إيحاءً قوياً بعزلة الشخصيات، وضيق الأفق أمامها.

في "الزيرو" (2012)، أبدى لخماري تحكّماً ملحوظاً في تناول بيئة الفساد الأخلاقي، من خلال قصة شرطي بزي مدني، يُروِّح عن إحباطه وقلقه الداخلي بالكحول، ويمارس بدوره سلوكات الاحتقار، التي يتعرّض لها من مرؤوسيه، على من هم أدنى منه مرتبة، في تراتبيةٍ مُمتَهِنةٍ للكرامة. كما يحضر في الفيلم بُعْدا الوصاية العائلية، المتمثّلة في أبٍ قاسٍ وبذيء، والعملية المتجسدة في رؤساء مُمعنين في الشطط والارتشاء، يدفعان الزيرو إلى الانغماس في قضية البحث عن فتاة مختفية، كوسيلةٍ لتصفية حساباته، والبحث عن الخلاص بالمعنى المتأصل في أعمال مارتن سكورسيزي، كـ"سائق التاكسي" (1976)، أحد المراجع الأساسية، التي لا يتردّد لخماري عن الاعتراف بتأثيرها عليه.

لكنْ، في "بيرن آوت" (2017)، فيلمه الأخير، استنزف نور الدين لخماري، ربما، طرحه حول المدينة ـ الوحش، فاكتفى بصبّ قصة كورالية في قالب مُفكّك وباهتٍ إلى حدّ ما، قوامه مجموعة كليشيهات، ودراماتورجيا مُفتعلة. عثرةُ شاطرٍ، جاءت مُخيّبة بقدر الآمال الموضوعة في مخرج مهمّ، يُنتَظر منه العودة إلى جادة الإبداع غير المُهادن، والمُخلْخِل للإجماع، في فيلمه الطويل الخامس "ميرا"، الذي يُصوّره حالياً.

المساهمون