مهدي الجلاصي محمد ياسين الجلاصي (العربي الجديد)
04 أكتوبر 2020
+ الخط -

شكّل انتخاب مكتب تنفيذي شبابي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، قبل 10 أيام، مفاجأة بالنسبة لعدد من العاملين في الصحافة المحلية. لكنها لم تكن المفاجأة الأخيرة، إذ انتخب أعضاء المكتب، أصغرهم سناً، محمد ياسين الجلاصي (34 عاماً)، نقيباً للصحافيين التونسيين.
علاقة الجلاصي بالعمل النقابي ليست مستجدة، بل كان عضواً في المكتب التنفيذي للنقابة في السنوات الثلاث السابقة، "وقد تعلمت خلالها الكثير" يقول في حديثه لـ"العربي الجديد". لكن هل ستكون هذه السنوات الثلاث كافية ليتمكّن من التعامل مع الخلافات التي سادت المؤتمر الخامس للنقابة (19 و20 سبتمبر/أيلول الماضي)؟ يعتبر الجلاصي أنّ "الخلافات داخل المؤتمر ظاهرة صحية تعكس رغبة من الصحافيين التونسيين في الدفاع عن مهنتهم وتخليصها من كل الشوائب التي تسودها، وأبرزها التداخل بين العمل الإعلامي والأهداف السياسية ووجود مال فاسد". ويضيف أن دوره كنقيب للصحافيين أن "أوظف هذه الخلافات للدفع في اتجاه تحقيق ما يطمح إليه الصحافيون التونسيون من مكاسب معنوية ومادية... الخلافات تجاوزناها منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات ودليلي على ذلك أن انتخابي نقيباً تمّ في إطار من التوافق التام بين كل الأعضاء ولم نسجّل أي اعتراض على شخصي وهو عامل مهم سأوظفه للتقريب في وجهات النظر، بما أنني مستقل ولا أنتمي إلى أي تيار سياسي تونسي".

لكن تداخل المهني بالسياسي، ليس أبرز المشاكل التي يعاني منها الصحافي التونسي. بل إن الهمّ الأول هو الاجتماعي ــ الاقتصادي، في ظل تردي الأوضاع المالية لأغلبية العاملين في الصحافة، خصوصاً لناحية التأخر في دفع الرواتب والتعويضات. يرى النقيب الشاب أن الحل الأول والوحيد يكون في تطبيق الاتفاقية القطاعية المشتركة ونشرها في الصحيفة الرسمية. وكانت نقابة الصحافيين قد وقعت مع أصحاب المؤسسات الخاصة وإدارات المؤسسات الرسمية والحكومة التونسية هذه الاتفاقية مطلع العام الحالي لتحديد حدّ أدنى "محترم"  للصحافيين مع ضمان حقوقهم  بالتطور المهني والمادي داخل مؤسساتهم. لكن حتى الساعة ترفض الحكومة نشرها فى الصحيفة الرسمية، لتصبح قانونية.
يتطرّق الجلاصي كذلك إلى المشروع السكني للصحافيين، وهو أحد المواضيع الخلافية التي شهدها مؤتمر النقابة، "المشروع السكني حلم بالنسبة لكثيرين، وبالفعل تقدّم العمل عليه بشكل كبير، إذ خُصص 30 هكتارا لهذا المشروع، حيث سنبني على جزء منه 400 مسكن وشقة وفيلا تباع للصحافيين التونسيين بأسعار أقل بـ 55 في المائة من أسعار سوق العقارات، وهو أمر سيساعد الزملاء على ضمان الاستقرار العائلي والتفرغ لعملهم".
لكن رغم كل هذه الجهود التي يعد فيها النقيب، فإن نظرة على الوضع العام للصحافة المكتوبة في تونس، لا توحي بكثير من التفاؤل. فالأزمة المالية تخنق المؤسسات، وهو ما أدى إلى انخفاض عدد المطبوعات من 255 عام 2011، إلى 50 حالياً.
 يقول الجلاصي: "هذا الأمر صحيح، وأزمة الصحافة الورقية أزمة عالمية، فأنا كنت أعمل مع صحيفتَي "السفير" اللبنانية و"الحياة" اللندنية وقد أغلقتا أبوابهما. لكن أعتقد أن الحلول موجودة وأهمها حسب اطلاعي على التجارب الدولية في هذا المجال الانتقال في مستوى التحرير، من مجرد نقل الخبر حيث الأسبقية للتلفيزون والمواقع، إلى تقديم محتوى تحليلي واستقصائي فى الصحف الورقية". ويضيف "الحل الثاني هو الانتقال الرقمي من خلال إطلاق مواقع إلكترونية للصحف الورقية تكون رافداً مادياً لها يساعدها على تجاوز أزمتها. وفي تونس يوجد صندوق مالي للانتقال الرقمي خصصته الحكومة التونسية للمساعدة بحقيبة مالية تقدّر بخمسة ملايين دينار تونسي (حوالي 1.8 مليون دولار أميركي)". 
هل يعني ذلك أنكم على ثقة بأن الحكومة التونسية ستساعد على هذا الانتقال الإلكتروني؟ يجيب الجلاصي بالقول: "أحد ادوار الحكومة هو مساعدة القطاع الإعلامي على الاستمرار من خلال وكالة للإعلانات التجارية الرسمية، تقوم بتوزيع الإعلانات التجارية بشكل عادل يساهم في التأسيس لصحافة ذات جودة ونوعية، ولكن لا ثقة لنا في الحكومات، بل لنا ثقة في أنفسنا كقوة ضغط للحصول على مطالب القطاع، وأي حكومة تونسية منذ 2011 لم تقدم هدايا للقطاع بل نحن من انتزعنا هذه الحقوق من خلال الضغط والتهديد بالإضراب العام. وأعتبر أن ذلك واحد من أدوارنا الأساسية في النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين".

عقبة أخرى تواجه النقيب الشاب وهي تداخل عمل الهيئات واللجان التي تشكّل المشهد الإعلامي التونسي الكبير: من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، إلى مجلس الصحافة الذي تأسس قبل فترة وجيزة، كيف ستكون علاقة النقابة مع كل هذه الهيئات، خصوصاً أن علاقة مجلس النقابة السابق بها، كانت تحكمها الأهواء الشخصية وليست علاقة مؤسساتية؟  يعتقد الجلاصي أنّ "العلاقة بين النقابة وهذه الأطراف أو غيرها من هيئات دستورية أو منظمات المجتمع يجب أن تكون علاقة مؤسساتية هدفها الارتقاء بالمشهد الإعلامي التونسي وخلق صحافة ذات جودة ونوعية". ويضيف "الحقيقة أن الهايكا أصبحت اليوم هيئة قائمة الذات لها آليات عملها التعديلية الخاصة بها، ونحن سنساند الهايكا في موقفها الرافض لتمرير مشروع قانون تقدم به ائتلاف الكرامة لإلغاء الإجازات القانونية عند إطلاق المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية وهو قانون نعتبره سابقة في العالم وباباً للفوضى غير مقبول نهائياً. لكن سنركز في عملنا على مجلس الصحافة الوليد، فهو أول تجربة في البلاد العربية سنعمل على إنجاحه حتى يقوم بدوره التعديلي، وهو ليس له أدوار عقابية كما يذهب إلى ذلك البعض، بل هدفه في النهاية صحافة جيدة تحترم أخلاقيات المهنة الصحافية، كما سيكون هذا المجلس حلقة الربط أو همزة الوصل بين منتجي المضامين ومتلقيها".

كانت النقابة دائماً في الصفوف الأمامية للدفاع عن حرية الصحافة لا في تونس فقط بل في كل دول العالم. فهل سيواصل النقيب الجديد هذا المسار؟ يؤكّد الجلاصي أنّ "مواصلة هذا المسار حتمية ومبدأ لا حياد عنه، فنحن دافعنا عن الصحافيين الأتراك عند اعتقالهم وكان لنا موقف مدين وبشدة لتصفية الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، ووقفنا في جبهة واحدة مع الصحافيين الجزائريين دفاعاً عن خالد درارني ومع الصحافيين المغاربة والمصريين والسودانيين والفلسطينيين واليمنيين فى الدفاع عن حقهم فى التعبير. نحن نؤمن بكونية حقوق الإنسان وأهمها الحق في التعبير، وسنواصل على نفس النهج ولن نحيد عنه. تضامننا مع الصحافيين ليس عملاً فلكلورياً بل واجب تنص عليه القوانين المنظمة لعمل النقابة".
النقابة أيضاً كان لها موقف من التطبيع الإماراتي والبحريني مع الكيان الصهيوني، ومواقف مساندة للشعب الفلسطيني. يؤكّد الجلاصي قائلاً "نعم كان لنا موقف مشرف، فنحن ضدّ التطبيع مع الكيان الغاشم مهما كان الطرف الذي يقوم به لأننا نؤمن بأن الحق الفلسطيني حق أصيل لا تراجع عنه ولا يباع ولا يشترى فى صفقات مشبوهة. وبالمناسبة، اتصل بي محمد ناصر أبو بكر نقيب الصحافيين الفلسطينيين ليهنئني بتولي المكتب الجديد إدارة النقابة وطلب مواصلة التضامن مع الفلسطينيين فأجبته بأننا لن نتضامن معكم بل سنكون في صفّكم دائماً، ورغم الحدود الجغرافية فنحن معكم ضد الكيان الصهيوني الغاشم، إذ إنّ قضيتكم هي قضيتنا".

من هو؟

يحمل نقيب الصحافيين التونسيين اسمين: مهدي الجلاصي ومحمد ياسين الجلاصي. إذ إن اسماً اختارته له أمه والاسم الآخر، وهو الرسمي، اختاره له والده. عام 1986 وُلد، وكان الرابع في عائلته، وكان الاتفاق بين الوالدين على أن تختار الأم اسمه، فاختارت "مهدي"، فيما أصرّ الوالد على اسم "محمد ياسين" وسجّله به. لكنّ والدته ربّته على اسم "مهدي"، وظنّ أنه اسمه الحقيقي، إلا أنه فوجئ سنة 1992 عندما كان يهم بالدخول إلى السنة الأولى من التعليم الابتدائي بغياب اسمه من الكشوفات المدرسية. وقتها نادى مدير المدرسة كل التلاميذ الذين التحقوا بفصولهم الدراسية إلا هو ظل واقفا فى الساحة لا يعلم ما يفعل؟ إلى أن اقتربت منه أمه وهمست له بأن اسمه الرسمي محمد ياسين، فكانت صدمته الأولى.
مهدي أو محمد ياسين، أصبح الآن في سن الرابعة والثلاثين وقد تعلم من سني حياته الكثير. فهذا الشاب الأسمر صاحب القامة الطويلة والذقن الخفيفة والعينين الكستنائيتين اللتين ترتسم فيهما ابتسامة دائمة، أصبح اليوم نقيباً للصحافيين التونسيين بعد انتخابه بالإجماع من قبل زملائه في المكتب التنفيذي للنقابة، وهو أصغر نقيب في تاريخ المهنة.
يحمل مهدي في نظرته براءة الطفولة، فيتحدث عنها بحماسة، إذ قضاها ناشطاً في صفوف الكشافة التونسية ولاعب كرة يد لمدة عشر سنوات في نادي بن عروس لكرة اليد، وهو أحد نوادي ضواحي العاصمة التونسية. أُغرم بهذه الرياضة وتدرج فيها إلى أن أصبح لاعباً فى صفوف كبار هذا الفريق. لكن الدراسة وولعه بمتابعة الشأن العام ومحاولة تغيير هذا الواقع في زمن الدكتاتورية دفعته إلى العمل السياسي وهو طالب في معهد الصحافة وعلوم الأخبار، فالتحق بالحزب الديمقراطي التقدمي، أبرز حزب معارض حينها لنظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. 

إعلام وحريات
التحديثات الحية

لم يكتفِ مهدي بالنشاط السياسي داخل الحزب، بل توجه إلى العمل الصحافي في صحيفة "الموقف" التي يصدرها الحزب وهو لا يزال طالباً، فكان يناضل بالقلم أيضاً. كتب مقالات وتحقيقات عدة في هذه الصحيفة، لكن التحقيق الذي كتبه وزميله غسان بن خليفة حول التعاطي الأمني مع ما عُرف في كانون الثاني/ يناير 2007 بـ"مواجهات سليمان" بين قوات الأمن  التونسية وجماعة إرهابية تُسمى بـ"جيش أسد بن الفرات" التابعة لـ"الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، تسبب له في الكثير من الآلام. يقول مبتسماً "غسان بن خليفة هاجر حينها إلى كندا وبقيت أنا في مواجهة التحقيقات التي تواصلت في قبو وزارة الداخلية التونسية لمدة عشرة أيام دون أن تعرف عائلتي بمصيري، ليتم بعد ذلك إيداعي بالسجن المدني بالمرناقية لمدة خمسة أشهر". غادر الجلاصي بعد ذلك السجن وحصل على ليسانس في الصحافة وركّز اهتمامه على اللغات التي يتقن منها أربعاً هي العربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية.
تعلّم الجلاصي من هذه التجربة الصبر والهدوء، فبات يدرك أن لا مجال للغضب ولا لردود الفعل الانفعالية في هذا العالم الجديد الذي رغم قساوته لقي فيه التكريم وحسن المعاملة من قبل السجناء السياسيين أو سجناء الحق العام. تعلم حينها ضرورة التفكير والتأني عند اتخاذ أي قرار، وهو ما استفاد منه بعد ذلك في عمله الصحافي في العديد من المؤسسات الإعلامية العربية، ومنها "السفير" اللبنانية، التي عمل فيها لست سنوات قبل أن تقفل. كما استفاد من التجربة عند صعوده إلى المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، فقد بات النقيب السابق ناجي البغوري يستشيره في كل قرار تتخذه النقابة، لأنه يدرك أنه لا يتسرع في إصدار الأحكام أو القرارات بل يفكر فيها بكل هدوء وترو حتى لا يقع في الخطأ. 
وبعد نجاح الثورة التونسية سنة 2011، اتّخذ محمد ياسين قراراتٍ عدة، منها الابتعاد عن العمل الحزبي والاكتفاء بدوره كصحافي مستقل لا ينتمي إلى أي فصيل سياسي تونسي بل الانتماء إلى المهنة والدفاع عنها. 
يدرك الجلاصي أنّ الهدوء والرصانة هما سلاحه الأول في مهامه الجديدة التي رغم صعوبتها يرى أنه سينجح فيها لأنه مؤمن بما يفعل رغم أنه لم يفكر يوماً بأنه سيتولى هذه المهمة الجسيمة في هذه السن الصغيرة. بات محمد ياسين الجلاصي نقيباً للصحافيين التونسيين، لكن أحلامه وتطلعاته لخدمة القطاع الإعلامي لا تزال كبيرة.

المساهمون