يقترح المخرج الهندي الشاب دومينيك سانغما، في "نشوة" (2023)، معاينة فكرة الخوف من الآخر، بعينيّ طفلٍ يرى، وُيراكم في عقله ما يشاهده من أحداثٍ تجري في قريته الصغيرة. يُغذّي الفكرة بحكايةٍ مثيرة عن اختفاء رجلٍ، وموت طفل في الغابة القريبة من قريته. يثير فعل الاختفاء خوفاً، يُكرِّس أوهاماً وأحقاداً.
يختار "نشوة" الليلَ فضاءً حاوياً لمشهد القرية وغابتها، التي يتّخذ الظلام من جوفها المجهول مَقاماً لسلطته. ينوّع التصوير (توغو خافير) درجات عتمته. من علاقة أهل القرية بغابتهم، تتنوّع مستويات الإغواء، للمضي عميقاً في جوفه. المشهد الأول يُظهِر أهل القرية وهم يدخلون الغابة ليلاً، يحملون مشاعل تنير لهم ممرّاتها الضيقة، وتُعينهم على الوصول إلى حشرات الزيز. حشرات يأتون كلّ عامين لجمعها، ومن لحومها يتّخذون لهم طعاماً. الإنارة والتصوير الليلي، المستخدمان لنقل مشهد تجميعها، يُثيران دهشة، لشدّة تناغم المشهد وما فيه من جمال لا ينقطع عن بقية مساره الدرامي المتصاعد.
بعد انتشار خبر الاختفاء، تتشكّل علاقة جديدة بين أهل القرية وغابتهم. من كونها مصدر عطاء، تُصبح الغابة مساحة للخوف والارتباك. ومثلما كانوا ينظرون دائماً، بريبة، إلى الغرباء الخارجين منها، صاروا يخافون منهم. ولأنّ القرية تتاخم منطقة حدودية في بنغلاديش، يذهب التفكير إلى مَن يشاع عن وقوفهم وراء عمليات "الخطف". ومن خيالاتهم المذعورة، ينسجون حولهم قصصاً عن انتزاعهم من أجساد المخطوفين أعضاءً حيوية، يبيعونها لمشفى قريب من القرية.
كلّ ذلك يسمعه الطفل كاسان (تورخو سانغما) الذي، رغم إصابته بمرض العشى الليلي، يمضي مع الجموع في بحثهم عن الغرباء. تضحى القرية كلّها أسيرة هاجس وهمي، تُغذّيه شكوك وموروثات قروية قديمة، تجعل من الآخر المجهول عدواً، وتحشد الطاقات لمواجهته.
تقارب حبكة "نشوة"، في العمق، قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، "في انتظار البرابرة". بدلاً من الانتظار خلف قلاع المدينة، يتحصّن الناس خلف دعوات راهب الكنيسة (سيلستين ك. سانغما) إلى الإرتكان على إيمانهم وصدق إخلاصهم للسيدة مريم العذراء، التي يصلهم خبر وصول تمثالها قريباً إلى القرية، ما يستوجب منهم إطفاء المصابيح لـ80 يوماً، كي يحلّ الظلام في بيوتهم، ولا يُفسد الضوء مجيئها المنتظر.
منذ انتشار الأخبار، وكلّ صرخة، من أي جهة أتت، أصبحت تُثير خوفاً، وتحفِّز على ملاحقة هستيرية لمعرفة مصدرها. وعلى وقع إيقاعها المتوتّر، تتشباك مصالح جديدة للسلطات، وتتوزّع مناطق النفوذ في القرية. الشرطة تريد، لها وحدها، حقّ إدارة عمليات التفتيش والبحث عن الخاطفين؛ والكنيسة تتحالف معها في دعوتها الناس إلى ملازمة البيوت المظلمة.
الخوف من الآخر، المحتَمَل ظهوره بينهم في كلّ لحظة، يدفع الناس إلى التقاطع مع السلطات. تنشأ وتتبلور، بسببه، قوّة متشدّدة، تدعو إلى أخذ المبادرة، والقبض على الجناة. تتشكّل منهم جموعٌ، وتسير على غير هدى إلى هدفٍ مجهول، لا أحد منهم يسأل عن ماهيته. وحدهم الأطفال، بخيالهم الجامح، يطرحون الأسئلة المُقلقة والمُشكِّكة. كاسان (10 سنوات)، يبحث عن أجوبة مُقنعة على ما يختمر في ذهنه من أسئلة، تتأتى من مراقبته السلوك العنيف الذي بات ينتشر في القرية، ويُتوَّج بمشهد إمساك بعض شبابها رجلاً غريباً، ثم قتله بالعصي. مشهد القتل يجري أمام عينيه، ورغم صمته، يتسلّل الخوف إلى أعماقه. لم يرَ من قبل الموت، ولم يرَ أحداً يُساق إليه بصمت، مستسلماً له، إلّا من بعض توسّلات مكتومة، تحيطه شلّة رجال منتشية بفعلتها.
للتعبير عن حال القرية، والخوف الذي تسرّب إلى نفوس أهلها ودفعهم إلى فعل القتل، اختار دومينيك سانغما أسلوباً سردياً بطيئاً، عبره تتبلور وتنضج بهدوء فكرته المركزية، وتتبيّن فيه موهبة الإخراج الذي يعانِد به تسفيهاً بوليوودياً سائداً اليوم، يحجب عن الأنظار موروثاً سينمائياً هندياً كبيراً، يعتني منذ ظهوره ببحث العلاقات المعقّدة بين الإنسان ومحيطه.
موروث تبلور في أعمال ساتياجيت راي (1921 ـ 1992)، وعلى خطاه يسير المخرج الهندي الشاب، المتخرّج من مدرسته، كما يشير في لقاءات صحافية معه، وعلى نهجه يتّخذ من ذاكرة المكان قاعدة لتفسير الواقع الهندي وتشابكاته، العرقية والمذهبية. هذا يُفسِّر لماذا اختار منطقة "ميغالايا"، القريبة من الحدود بين الهند وبنغلاديش، مكاناً يُجسّد فيه رؤيته السينمائية، ويعرض التشابك الثقافي الحاصل فيها، وبالضدّ، وبدلاً من استثمار أفضال التنوّع والاختلاط، تعمل السلطات الدينية والسياسية على تقويضه خدمة لمصالحها.
هذا ما يريد أنْ يوصله "نشوة"، باشتغال سينمائي رائع، يُنبّه إلى قوّة تأثير الموروث السينمائي الهندي، ورهانه الإبداعي على شبابٍ يطرحون، في أفلامهم، أفكاراً ومفاهيم وجودية شديدة الحساسية، كالخوف من الآخر، والحكم عليه بالموت من دون منحه حقّ الدفاع عن نفسه.