ليس غريباً على منصات البث التدفقي، وعلى رأسها شبكة نتفليكس الأميركية، سعيها في تسويق أعمالها الفنية، إلى طرح قضايا إنسانية تحابي الرأي العام الغربي، بما يتلاءم مع الخطاب السياسي والحقوقي السائد.
ورغم أنّها قضايا أساسية، تعكس واقعاً اجتماعياً وإنسانياً، فإنّها، في مضمونها، لا تعد نموذجاً أيديولوجياً تفرضه متطلبات السوق الفنية وتوجهاتها، بقدر ما تعد ظاهرة تسويقية تناسب معايير العرض والطلب. وقد شهدنا منذ سنوات التأثير الإعلامي الذي قادته حركة "مي تو" الحقوقية، حين ضغطت على شركات الإنتاج الأميركية، ودفعتها إلى تعديل بعض التفاصيل الخاصة بالمشاهد الجنسية، وتقليص دورها في الأعمال السينمائية والتلفزيونية.
ولعلّ تركيز الحملة التي قادتها الحركة، كان موجهاً بشكل كبير نحو منصة إتش بي أو، التي قدمت مسلسل "صراع العروش" أحد أكثر الأعمال احتواءً للمشاهد الإباحية. وبالفعل، نجحت الحملة في التأثير على عمل المنصة، ودفعتها إلى تغيير سياساتها الإنتاجية، والحد بشكل ملحوظ من اللقطات والمشاهد الجنسية. بدوره، انعكس هذا الأمر، تباعاً، على باقي منصات العرض الرقمية.
ومن هنا، ندرك حجم التغيير الذي وضع صناعة السينما والتلفزيون تحت وطأة المطالب الإنسانية والحضارية بشكل فعّال ومناسب. غير أنّ امتثال الفن للمطالب الحقوقية والإنسانية، لا يصح أن يكون مشروطاً بالمقاصد التسويقية، وإلّا سنفقد القيمة الفنية نفسها في أيّ عمل، حين تدّعي هذه المنصات المحاباة أو تستثمر بتلك القضايا، من دون وضع أي اعتبارات مهنية إبداعية لمجرد أنها تخاطب حقوق الإنسان وحريته. وهذا ما سنراه في بعض الأعمال التي طرحتها شبكة نتفيلكس أخيراً.
في عام 2020، بثت المنصة الجزء الأول من المسلسل الخيالي Warrior Nun، الذي يتناول قصة مجموعة من الفتيات المقاتلات اللاتي ينضوين تحت راية الكنيسة للدفاع عن الأرض في وجه شياطين العالم الآخر.
تؤدي الممثلة البرتغالية الشابة، ألبا بابتيستا، دور البطولة الرئيسية. نتعرف خلال حلقات العمل إلى حياة الفتاة القادمة من الميتم الخاص بالكنيسة، وكيف عادت إلى الحياة بفضل سوار ذهبي سحري زُرع في جسدها بطريق الصدفة. تتابع الفتاة حياتها بكلّ شغف ودهشة، بعد أن قضت جزءاً منها في الميتم.
هكذا، ستلتقي بمجموعة صغيرة من المراهقين، وستقع في حب الشاب جي سي (إميليو ساكرايا). خلاصة موجزة لهذا العمل نستقي منها مفهوم المنصة ورؤيتها في تحويل العمل إلى قضية نسوية وجندرية في الموسم الثاني، الذي عرض قبل نحو شهر، في محاولة لتحسين القصة، ورفع مستوى المشاهدة بعد موسم أول متواضع في جميع معطياته، من قصة وإخراج وحبكة وشخصيات. وذلك من خلال التغيير المباشر والطارئ الذي اعتمدته "نتفليكس" في بداية الموسم الثاني؛ إذ قامت بتغيير الهوية الجنسية لبطلته الرئيسية، وتحويل بابتيستا من فتاة مغايرة الجنس إلى فتاة مثلية، من دون أن يكون هناك أيّ مبررات نفسية وسلوكية أو درامية حتى، تمهد لهذا التحول الطارئ والمفاجئ في هوية البطلة.
نسخة مطابقة نجدها في الجزء الثالث من مسلسل Emily in Paris، الذي انطلق عرضه أخيراً. وذلك من خلال شخصية كامي (كامي رازات)، صديقة البطلة الرئيسية في العمل إميلي (ليلي كولينز). في الموسم الأول، سنرى علاقة عاطفية تجمع بين كامي والشيف غابرييل (لوكاس برافو). مع تسلسل الأحداث، ستتعرف إميلي إلى كامي وتصبحان صديقتين مقربتين، في الوقت الذي سنشهد فيه ولادة علاقة عاطفية بين غابرييل وإميلي، من دون أن تعلم الأخيرة بأنّ حبيبها هو نفسه عشيق صديقتها. ينتهي الموسم الأول باكتشاف كامي لهذه العلاقة. في الموسم الثاني نشهد عداوة بين كامي وإميلي وإصرار الأولى على التمسك بغابرييل. أما في الموسم الأخير، فسنشهد تحولاً جذرياً في شخصية كامي، وكيف أنّها تحولت من فتاة مغايرة الجنس إلى فتاة مثلية ستجمعها علاقة غرامية مع إحدى الفنانات التشكيليات، من دون أن يكون هناك أي تمهيد درامي أو مبرر نفسي وسلوكي كذلك.
هذه التحولات التي أقحمتها "نتفليكس" في سبيل إضفاء قيمة أكبر على العملين، مستغلة حساسية المسائل الحقوقية وأهميتها بين المجتمعات المدنية، أضفت واقعاً إنتاجياً مقايضاً على حساب المصداقية المهنية والفنية، من دون حسابٍ لمعايير العمل الجيد وتوازن عناصره التي أخلّت بها بصورة فجة.