يستمد مقام اللامي الموسيقي الشائع في العراق تأثيره من ذلك الحوْم الموجع والمضني حول عتبةٍ تبعد بعداً كاملاً عن قرار النهاوند الحزين. كما لو أن الأسى لا يتسنّى له حتى أن يهبط مسافةً قد تُريحه، ولو قليلاً، من العذاب؛ فيُواسى بالأسى. فضلاً عن أن أثر النهاوند، بوصفه حاضِناً سُلميّاً لجنس اللامي، يُعاني انخفاضاً عند النغمة الرابعة تجعل منه جنسَ كُردٍ، لتبدد بذلك كل فرص الراحة، بهذا، تصير الإقامة على عتبات الفرج قدراً، ويؤول الوصال من المحال.
تلك الأفلاك الثلاثة والمتداخلة للحزن في اللامي بإيحاءٍ ظاهر من الكرد، ومستتر من النهاوند، تستدعي حاملاً أدائياً لا يخشى الهشاشة والضعف الوجودي، ولا يستحي من الانكشاف أمام الآخر؛ أي المستمع في سياق التلقي. حاملٌ يحوي عنصراً أنثوياً، لا يمنع عن عيونه ولا عن عيون سامعه الدمع خوفاً من هَزْء الجماعة، ولا يكبح الشكوى والأنين خشية ارتخاء البأس وانكسار الشوكة. بذلك، يلامس جوهر الإنسان الوحيد، القلق والمضطرب، قليل الحيلة إزاء هول الحياة وحتمية الموت.
العنصر الأنثوي في أداء ناظم الغزالي (1921 - 1963)، الذي تمرّ 100 عام على ميلاده، هو ما جعل منه مرتبطاً لدى الذاكرة السمعية العربية لعقود طويلة بمقام اللامي المركّب؛ مثلث المناسيب الحزينة، متعدد الأمزجة الميلانكولية. وذلك من خلال ارتجاله الشهير، بأسلوب الموال العراقي، على أبيات قصيدةٍ تُعرَف بعنوان "نجوى أسير" لأبي فراس الحمداني، نظمها حين وقع في الأسر من قبل الروم في القسطنطينية، إثر إحدى المعارك. وقد اشتُهرت بمطلعها "أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ". بحسب مشهدية القصيدة، يسمع أبو فراس من خلال نافذة الزنزانة صوت حمامة تنوح من على غصن شجرة. يتساءل: كيف لها أن تئن وتسجع وهي حرّة طليقة، بينما هو حبيس قفص، تملأ قلبه الهموم والأحزان.
يعيب الشاعر العباسي على الحمامة هشاشتها وانكشافها المُتمثّل في صوت الهديل، ذي التأويل النمطي البكائي عند البشر، فيقول: "أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ، ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سالِ؟"؛ إذ يقارن بين ضعفها لإظهارها مشاعر الأسى لديها، والبوح إلى ما حولها بوجع القلب، وبين رجولته وفروسيته التي تقتضي الضحك في وجه الأسر والسكوت عن آلام الجسد المُدمى والمُعذّب. ثم يعلق: "لقد كنت أولى منكِ بالدمع مقلةً، ولكنَّ دمعي في الحوادثِ غال". إذ هو من يجدر به البكاء على حاله وليست هي. لكنه رجلٌ باسلٌ وفارسٌ مغوار، يأبى أن يعيبه خوفه وأن يُذلّه أنينه في مرأى ومسمع من العدو والصديق، على حد سواء.
إلّا أنّ الغزالي بغنائه أبيات أبي فراس الحمداني على مقام اللامي يتناهى إلى السمع كما لو أنه يحاول خرق درع الفروسية التي تحاول أنا الشاعر التمسك به على طول القصيدة، وبالتالي، النفوذ إلى نفسه المنهكة والمترنحة تحت وزر مهانة الأسر عند حافة الانهيار. فهي تحاول التلميح إلى الوجع، لكن فقط من خلال إسقاطه على هديل الحمامة. أما اللامي، فيدخل على المسرح النفسي الداخلي لدى كلٍّ من المؤدي والمتلقّي، ليعكس من مسار الإسقاط. فيصير النحيب صوتَ الشاعر، وما صوت الحمام إلا تجليّاً له.
ليس المقام هنا ما يُعزز بالدرجة الأولى من عنصرِ الهشاشة والانكشاف في الموال، وإنما كل من خامة صوت الغزالي، ومن ثم أدائه الموسيقي والتعبيري منقطع النظير بين مطربي جيل عصره، على الأخص من بين الذكور. ففي حقبة ميّزتها حناجر كلاسيكية رخيمة، ميّالة إلى إبداء مظاهر الرزانة والوقار، أخذت تعكس مزاج الثقافة السائدة إبان المدّ العروبي في الستينيات والسبعينيات، وذلك من خلال تأكيد للذات الجمعية في صور كالشموخ والعزّة والإباء؛ يُسمع صوت ناظم الغزالي نشازاً لافتاً يسعى إلى لمس الذات الفردية، وكشف مكامن الرقّة فيها، عن طريق تبنّيه أسلوب النجوى الذاتية، لا الخطابة الجماهيرية، وإن يكن ضمن السياقات التقليدية في التراث العربي، من حب وشوق وفراق.
من الناحية التقنية، يستمد الغزالي مسحة الأنوثة الفريدة عربياً لأدائه من خامة الصوت الطبيعية لديه، إذ إنه يتموضع ما بين طبقة التينور الرجالية، والسوبرانو النسائية. تموضعٌ، من شأنه أن يمنح الحنجرة الشرقية الهوائية والحادة قوّة دفع صوتية تجعلها تتحرك بطلاقة ورشاقة على مستويات نغمية مرتفعة. وتلك سمّة نادرة على صعيد الطرب العربي التقليدي، خصوصاً في منتصف القرن العشرين. وإن شاعت على نطاق ضيّق، ضمن التواشيح والابتهالات الدينية؛ إذ يتعيّن على الصوت الذكوري أن ينوب عن غياب النسوة في الارتقاء نحو الطبقات العليا. كما في "التعطيرة الشريفة" الشهيرة للشيخ المصري إبراهيم الفران.
لكنّ الغزالي لا يكتفي بالعبور بين الطبقات صعوداً وهبوطاً بخفة وحرية، وإنما يستغل تلك الملكة الطبيعية لديه في دفع الحدود أقصى وأبعد، ليُسمع صوته كما لو أنه يمشي على حبل مشدودٍ في الهواء، يُقارب على الوقوع عنه عند أيّ لحظة. فكأنّ الالتزام بمعايير السلامة الأدائية لا يعنيه، أو بالأحرى لا يقيّده. سواءً في حالات التطريب على مستويات شديدة العلو، أو في الانتقال الخاطف من مقام إلى مقام، ثم العودة إلى المقام الرئيسي، أي ما يُعرف في فن الغناء العراقي بـ "التقطيع والأوصال". تلك الجرأة في لمس حدود العجز، إنما تُعزّز من الكمون التعبيري لديه، فتُضفي على غنائه لمسة إنسانية تحاكي لحظة الصراخ ألماً، أو الانهيار بكاءً، وتقترب به من وجدان المستمع.
مقامٌ آخر من المقامات المُميّزة لشخصية العراق الموسيقية، ولإرث ناظم الغزالي الغنائي، هو مقام المُخالف. كاللامي، يغوص المخالف عميقاً، ولربما أعمق في ظلمات الوجع الإنساني. قراره أقرب إلى اللاقرار، هو على نغمة السيكا بخاصيتها البُعيدية (الميكرو- تونالية)، التي تجعل من القلق الوجودي مبتدأً متوتراً للمقام، ومُرتكَزاً مضّطرباً لنغماته اللاحقة. على القرار القلِق، تضغط النغمة الثالثة بفعل ثقل علامة التحويل المُخفّضة، كأنها جمرة ملتهبة تُطبق على جُرحٍ مفتوح؛ إذ يصير كما لو أن الموت وحده كفيلٌ بالراحة النهائية والخلاص الأخير.
على مقام المخالف، يؤدي ناظم الغزالي أغنية اشتُهر بها مطربٌ عراقي آخر هو يوسف عمر (1918 - 1986)، بعنوان "خلّى الغرام وترك قلبي"، وإن عُرف عن الأخير غناؤه للمقطع مُسجلاً على مقام الراشدي الأكثر انفراجاً والأقرب إلى أجواء الراست المنبسطة. أما كلمات الأغنية، فتعود لأستاذ المقامات العراقية محمد القبانجي (1901 - 1988).
تصور الأغنية الألم الناجم عن هجر الحبيب وصعوبة احتمال فراقه، إذ يُصبح الأمل بالنسيان وسيلة للشفاء منه.
يقول: "خلى الغرام وترك گلب المعنى انساك، من حيث قاسي وعذاب العاشقين انساك، مو من حديد القلب لحمٍ ودمٍ ساك، أقدر أصبّر القلب لو ذكرهم عني، قربك عليه ضرر يا مالكي عني، يكفي عذاب وسهر روح ابتعد عني، ما أكرهك والنبي لاجن أريد انساك".
بعد مقدمة موسيقية مهيبة للتخت العراقي التقليدي، الذي عادة ما يضم إلى جانب الآلات الشرقية، كالعود والقانون والناي، طبلة الكاسور العراقية وربابة "الجوزة"، ذات القوس والجذور الفارسية. يبدأ الغزالي بما يُصطلح عليه في فن غناء المقام العراقي بـ "التحرير"، حيث يُبرز المطرب شخصية مقام المخالف، وهي قراره نغمة السيكا، بتدوير مستمر لها على لفظة آه تارةً، ثم عبارة "يا خيّي" تارةً، و"ولا والله" تارة أخرى.
خلال التحرير، يسبح الغزالي مرتجلاً في حلكة سواد المخالف. يركب موجات لحنية صوتية عريضة على علوٍّ منخفض، هائماً تائهاً لا يعرف وجهة له ولا قراراً، مُظهِراً بذلك هوية المقام، مُرخياً حبال حنجرته الصوتية، ليمر بها الهواء ثقيلاً فيُسمع كزفيرٍ تعِبٍ وهِنٍ. من حين إلى حين، وعند فواصل معينة بتقنية "الصفير" (الفالسيت)، يضيف إلى تلك الموجات بحّة تزيد المغنى أسى، دافعةً به نحو مناخات البكائيات الكربلائية.
على بعد أربع نغمات من قرار المخالف، حيث تقع درجة الحسيني، مُستهلّ جنس الراست؛ يقوم الغزالي بالتلاعب بالمسافة التي تفصلها عن نغمة العجم التي تليها، من بعد كامل إلى نصفي عند لفظة "لا والله". كأني بها مصراع عدسة كاميرا فوتوغرافية، يُفتح تارةً ثم يُطبِق تارةً، فيشتد الضوء المار عبره حيناً لترتاح النفس، ثم يعود ويخفت حيناً أخرى لتنقبض من جديد. حساسيةٌ أسلوبية تُذكّر ببعض أدوات الطرب الفارسي المجاور جغرافياً وثقافياً.
مرة أخرى، يتناهى عنصر الأنوثة، ممثلاً بمظاهر الهشاشة التعبيرية والانكشاف العاطفي بوضوح في أداء الغزالي لمقام المخالف، عند نهايات الجمل؛ إذ يقوم بتذييلها عن طريق إبداع زخرفات تتجه نزولاً نحو علامات أخفض فتوحي بذوْيِها. إضافة إلى خروجه بحنجرته مرات عن إطار أعراف الغناء، واكتفائه عند آخر كل جملة بإصدار أصواتٍ عبر عصصٍ في الحلق يُشبه البحّة أو الغصّة، يختم بها الكلام. بذلك، يُزيل الحدود التي تفصل بين التصويت الطبيعي والتصويت الموسيقي؛ فيكتسب أداؤه شحنة انفعالية تستثير في نفس المتلقي ردود فعل عاطفية آنية ومباشرة.
يمكن تتبع تلك السمة السيكولوجية - الجمالية التعبيرية النادرة، التي تميّز بها غناء ناظم الغزالي عن مجايليه من الأصوات الرجالية، إلى التكوين الأسري وطبيعة المشوار المهني، الذي قاده نحو التأسُّس فنياً، وبجهودٍ ذاتية، في العراق وخارجه، وذلك كواحد من أيقونات الغناء العربي. إذ إنه لم يأت من رحم مؤسسة فنية تعنى بصناعة النجوم في الشرق الأوسط، كما هو المشهد في مصر الأربعينيات ولبنان الستينيات. وإنما سلك دروباً ملتوية بعيدة عن التتلمذ على التأصيل، أولها كان انضمامه إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد ليدرس التمثيل. ولعل في تلك المحطة على مشواره القصير عمرياً، ما ألهمه في ما بعد، على التعامل مع الحنجرة بوصفها وسيطاً درامياً. فيحقن الطرب الشرقي بعناصر تعبيرية لم تكن معهودة بين مطربي زمانه.
كما أنّ الغزالي قد تيتّم مرتين، إذ فقد أباه في سنٍّ مُبكرة، ليعيش في كنف أمٍّ ضريرة فقيرة، لم يلبث أن فقدها هي الأخرى حين لم يكن قد بلغ من العمر بعد السنوات الأربع. كل ذلك، في جو عام من الفقر المدقع والعوز الشديد؛ إذ يصعب على المرء أن يتصوّر مدى الإحساس بانعدام الأمان المزمن لديه. وعليه، كيف كان التعبير الفني بالنسبة إلى يافع مثله مرآة عاكسة لطفولة غضّة رقيقة، كانت الصدمات النفسية لها حالاً موسمية، فيما ظل الظلم والحرمان زمناً طويلاً يشكّلان بالنسبة إليه خبزاً يومياً.
رفضه من قبل النخبة المحافظة لسدنة المقام العراقي، بحجة أنه لم يلتزم حرفياً بأعراف المقام ونواظمه الراسخة لأجيال؛ جعله يضطلع بدور الخارج عن المؤسسة التقليدية، ويُطلق موهبته الفذة نحو التجديد والتطوير، ودراسة الغناء العراقي وتاريخه في إطاره العربي والإقليمي الأوسع. من منظوره المتحرر من قيود التراث، بإطاره المؤسساتي الصلب، سعى الغزالي إلى العبور بالمقام العراقي بسيولة وسهولة، ليس إلى عموم العراقيين فحسب، وإنما إلى أسماع العالم العربي كله.
تلك الفسحة الرحبة من الحرية الإبداعية، جراء الخروج عن الجماعة بالمفهوم التأصيلي، قادته نحو العمل على صقل أسلوبية فردية لا تقتصر على إطراب الناس وظيفياً، أو نقل التراث من جيل إلى جيل، وإنما التأثير بهم على مستويات شعورية أعمق، مُحدثاً تناغماً نفسياً ووجدانياً، ووحدة حال إنسانية مع الجمهور.
هكذا، يبدو ناظم الغزالي كما لو أنه قد نجح من خلال نافذة زمنية قصيرة، في توثيق الصلة العاطفية بالمستمع العربي لقرونٍ قادمة، وذلك خارج إطار الهوية الخاصة بالمقام العراقي. تنوعت وسائله في إحراز هذا النجاح؛ من خلال غنائه أشعاراً باللغة العربية الفصحى، متجاوزاً بذلك خصوصية اللهجة المحلية، ومن ثم انفتاحه على التنوّع المقامي، وعدم الاكتفاء بالتقاليد المؤطرة والمقيدة لحركته، ومن ثم الاستفادة من خبرته المسرحية، بُغية تبنّي لغة جسد ولون صوتٍ يحمل في جعبته الجمالية مزيداً من العناصر تعبيرية والأدوات درامية، يتفاعل من خلالها مع المستمع بشكل أعمق وأخص.
أما الوسيلة المُضمرة، الحميمية والفريدة في شخصية الغزالي الفنية وفي إرثه الجمالي، فتبقى ذلك الاحتضان العربي النادر لعنصر الأنوثة من قبل واحدٍ من رجال الغناء في التاريخ الحديث. أنوثةٌ تمثّلت في كل من سمتي الهشاشة والانكشاف. ثم توظيفها لجهة خلق صلة وصل مباشرة، عابرة لآلية الخطابة والتلاوة والإلقاء، والتي كانت سائدة في عصره؛ إذ أثرت من ناحية الأداء، حتى في الحناجر النسائية.
من نافل القول إنه لا ينبغي لعنصر الأنوثة في سياق الحديث عن أداء ناظم الغزالي الغنائي أن يؤخذ ضمن إطار الهوية الجنسية الضيق. وإنما كطاقة كامنة في الوجود الإنساني، يشترك بها البشر على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم. كما أنه لا يجب حصر عنصر الأنوثة بصور الهشاشة والانكشاف، وإنما الكلام عنه في سياق الشفافية العاطفية والصدق الشعوري.
هكذا، يبقى هو ذلك الرافع التعبيري والمُحرك الجمالي لتلك الرقة العارية، والدمعة غير المحتجبة والرأفة غير المتوارية عند كل الناس. إنها المقدرة على الاعتراف بالضعف، والإقرار بالخوف والاستسلام للحيرة أمام حلو الحياة ومرّها، والتسليم بمشيئة الأقدار وسُخريتها. فالغزالي حين يغنّي، لا يستحي من البكاء على كتف من يسمعه. في المقابل، إن شعر أحدهم بالضيق حيناً، أو انتابته رغبة في البكاء، فثمة موّالٌ لناظم يواسيه. وسيجد في صوته الصدّاح ملجأً له ومتكأ.