من الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً لوس أنجليس، عبرت موسيقى البوب إلى إيران خلال حقبة الثمانينيات. ففي الداخل، لم تسمح الجمهورية الإسلامية إلا بالموسيقى الكلاسيكية وفق إنتاج محدود وقيود متعددة، لكن مع حلول التسعينيات وانتخاب محمد خاتمي، أمست الحكومة أكثر تسامحاً مع الموسيقى الحديثة، ليتيح هذا الأمر ظهور جيل من موسيقيي الداخل، أنهى هيمنة دامت عقدين للوس أنجليس على البوب الإيراني.
بصفة عامة، ما زال النظام السياسي غير مرحب بتلك النوعية الحديثة من الموسيقى، إلا أنه رغم القيود والمضايقات التي تمارسها القوى الأكثر تشدداً في النظام الإيراني، برزت أنواع موسيقية أخرى إلى جانب البوب، مثل الروك والراب والبلوز، ليعمل الموسيقيون الإيرانيون على مزجها بموسيقاهم.
وإلى جانب هذا التحدي الفني، يواجه الفنانون هناك تحديات أخرى أشد خطورة؛ فكثير من الفرق الموسيقية ما زال يعمل تحت الأرض، مهددة بالملاحقات الأمنية، إذ تأخذ السلطات الموسيقى بصورة جدية، واضعة عليها كثيراً من القيود والمحاذير. لكن، على الجانب الآخر، كان الفنانون الإيرانيون أكثر جدية في ما يخص عملهم، ليتحدوا جميع القيود، من أبرز هؤلاء أسماء محسن نامجو، وشاهين نجفي، ومهدي رجيبان.
محسن نامجو
من مشهد، المدينة المقدسة، بدأ محسن نامجو مسيرته سنة 1993. تعلم العزف على السيتار إلى جانب الغيتار الكهربائي، ليعمد إلى مزج الموسيقى الفارسية الكلاسيكية بموسيقى الروك والبلوز. أما كلمات أغانيه، فقد اعتنى عبرها بترويض أشعار جلال الدين الرومي والشيرازي، لتجاور مفردات الحياة اليومية في إيران، إلى جانب ذلك قدم الأغاني الدينية، ولم يغفل الفولكلور الفارسي.
على مدار سنوات طويلة، قدم نامجو موسيقاه من إيران، ليطلق ألبومه الرسمي الأول في عام 2007، إذ لم تمنح الرقابة أياً من ألبوماته السابقة الترخيص القانوني. وبعيد نجاح الألبوم، تعرض نامجو للعديد من المضايقات، فقرر على إثرها مغادرة إيران (2008) إلى الولايات المتحدة.
في عام 2009، حُكم على نامجو بالسجن خمس سنوات غيابياً بتهمة إهانة القرآن، بعدما انتشر مقطع له وهو يغني سورة "الشمس". ورغم توضيحه أن المقطع سُرب من دون موافقته، ولم يرغب قَطّ في نشره، إلا أن ذلك لم يحل دون صدور الحكم عليه.
قاوم نامجو تحريضاً دعا إليه هذا الحكم القاسي بأن يتجه إلى الغناء السياسي. ففي تصريح له لصحيفة ذا غارديان البريطانية، نبه إلى رفضه تماماً ربط قيمته الفنية بالمعارضة السياسية. ففي رأيه، على الفنان أن يحصل على هويته الموسيقية من الفن، وليس من السياسة. مع ذلك، لم تمنع هذه الرؤية المغني الإيراني من تقديم أغنية انتقد فيها النظام مباشرةً في عام 2009، على خلفية موجة الاحتجاجات التي انطلقت من مدينته مشهد، لتتسع وتضم إليها أغلب المدن الإيرانية، اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية وقتها.
"لنا شارع الشهداء، ولنا فضلات الطعام، النسخات المقرصنة من فيلم العراب هي ملكنا، وفريق كرة القدم الخاسر هو خاصتنا، النقد البناء نصيبنا، والغد قد يكون ملكنا". حملت هذه الكلمات توجهاً تجديدياً للموسيقى الفارسية أرساه نامجو في أغانيه، بعدما مزج نغماته الفارسية بموسيقى الروك والجاز والفولك، بينما جاءت أشعاره دائماً معبرة عن الهم الإيراني.
شاهين نجفي
100 ألف دولار عرضها موقع إلكتروني إيراني لمن ينهى حياة مغني الراب شاهين نجفي، بعدما وجه له الموقع اتهامات بازدراء رموز دينية. وقبلها أصدر رجل الدين الإيراني آية الله العظمى قلبيقاني، فتوى بهدر دم نجفي لذات السبب.
خلافاً لنامجو، مال نجفي على إيقاعات الهيب هوب وأغاني الراب إلى الاشتباك بشكل صريح مع الوضع السياسي، ففي الأغنية التي أثارت الأوساط الدينية المحافظة، وجاءت تحت عنوان "يا نقي"، دعا نجفي ساخراً الإمام العاشر إلى الظهور وإنقاذ المجتمع الإيراني مما وصل إليه، بعدما أن خاب الأمل في الإمام المهدي المنتظر.
درس نجفي (1980) الموسيقى الكلاسيكية في بلدته الساحلية بندر أنزلي، وتعلم الغيتار ليمسي عضواً في عدد من الفرق الموسيقية التي تعمل تحت الأرض. أسس بعدها فرقة مع زملائه في الجامعة، لكن سرعان ما مُنعت من إقامة حفلاتها بزعم إهانة الدين الإسلامي.
في عام 2005، قرر نجفي الهجرة إلى ألمانيا، وهناك انضم إلى فرقة إيرانية، لتتتابع أعماله التي أمست أكثر صدامية، وإن تنوعت قضاياها بصورة أكبر، فاهتم نجفي بمسائل حقوق المرأة والتمييز والحريات الاجتماعية، إلى جانب قضايا القمع والرقابة والإدمان الذي أمسى يمثل تهديداً جدياً للمجتمع الإيراني. وبصفة عامة، اتسمت أعماله بالسخرية اللاذعة، تجلى ذلك في أغاني مثل "الدورة الشهرية" و"حياتنا حياة الكلاب" و"ندى". وجاءت الأغنية الأخيرة تخليداً لذكرى ضحايا انتفاضة 2009. وبالتوازي مع همه الوطني ذاك، حرص نجفي على تطوير أسلوبه الموسيقي، ليجرب دائما أشكالاً جديدة يمزج فيها موسيقاه الشرقية بالموسيقى الغربية.
مهدي رجبيان
بدأت متاعبه مع السلطات في سنّ الرابعة والعشرين (2013)، بسبب إدارته شركة إنتاج فني تدعم المغنيات الإيرانيات، حيث يمنع النظام الإسلامي عمل المرأة بهذا المجال. خلال تلك الفترة، عمل رجبيان أيضاً على إنتاج ألبوم له يدين الحرب العراقية الإيرانية، ليسبب نشاطه ذاك إغلاق الاستوديو الخاص به. تبع ذلك صدور حكم عليه، ليمضي تسعة أشهر في السجن.
تكررت محنة الفنان الإيراني إثر إنتاجه أغاني جماعية تضمنت محتوى ثقافياً وسياسياً، يدين انتهاك حقوق الإنسان، منتقداً ممارسات النظام بهذا الخصوص، الأمر الذي قدمه للمحاكمة، ليصدر حكم عليه بالسجن ست سنوات.
قضى رجبيان عامين منها، ثم اضطرت السلطات بعدها إلى تخفيف الحكم وإطلاق سراحه، إثر إضرابه عن الطعام أربعين يوماً، ليصيبه ذلك بأضرار صحية بالغة؛ فتأثر بصره وتورمت مفاصله بصورة جعلته عاجزاً عن العزف على أي آلة موسيقية. في ذات الوقت ساندته حملة تضامن واسعة، ضمت العديد من الموسيقيين العالميين، إضافة إلى المنظمات الحقوقية الدولية.
لاقت أعمال رجبيان رواجاً واسعاً بين الشباب في إيران، وساهمت الملاحقات الأمنية في عبور شهرته إلى الخارج، ليحظى بشهرة عالمية، إلا أن هذا لم يعفه من إقامة دعوى قضائية عليه للمرة الثانية أواخر عام 2020، حيث قضت المحكمة بسجنه ثلاث سنوات، ليختفي الفنان الإيراني إثر ذلك في قبو أحد المنازل مدة تسعة أشهر، أنجز خلالها ألبوماً غنائياً بعنوان "الشرق أوسطي". رغب رجبيان في أن يكون موضوعه الرئيسي الدعوة للحرية والسلام، بينما ساهم في العمل الفني المهم قرابة 100 فنان من 12 دولة، منهم موسيقيون من العراق، ولبنان، والأردن، وسورية، واليمن.
نفذ رجبيان عمله الموسيقي المميز في ظل ظروف بالغة الصعوبة، فإلى جانب الضغط النفسي، كان عليه أن يكتب موسيقاه ويرسلها إلى شركاء مشروعه الضخم من الموسيقيين والمغنين ليؤدوها، ثم يقوم بعدها بتجميع المقطوعات وإرسالها إلى شركة الإنتاج، ليصدر الألبوم في مارس/ آذار 2019، متحدياً خلال ذلك المشكلات التقنية وضعف الإنترنت بالقبو، وقبل ذلك السلطات الراغبة في إخماد صوت موسيقاه.