على هدي الإيقاع المُلغز، بفضل رسائل الأصوات المكبوتة، وعفوية الارتجال على واقع القمع والعنصرية المزري، انسلّت تباعًا خطوات الأفارقة الأميركيين، خارج حدود نيو أورلينز، ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لم تكن خطواتهم بمعناها المادي، إذ تدب على سطح الكوكب، ذات أي قيمة أو اعتبار، بالقدر الذي كانته بمعناها المحسوس؛ فهؤلاء الضعفاء المهمشون واجهوا الاضطهاد والإقصاء العرقي ببهجة الأصوات المفعمة بالحياة، فكيف للحن البلوز (Blues) الخارج من الضيق والحرمان أن يسري مسرى الفرح والرقص؟ تلك هي المفارقات التي أفرغت لموسيقى الجاز صفحات في تاريخ البشرية، ليخط فيها الأفارقة الأميركيون، بصمتهم وإسهاماتهم، في الثقافة والتاريخ.
يتميز اللحن الجازي بخصائص ديناميكية تمكنه من التأقلم مع أي طارئ موسيقي؛ فمقوماته الأولى تتمثل بالإيقاعات المتعددة، ومادة التآلف (الهارمونية) الحرّة إلى حد كبير، والتناول التنويعي للألحان، وليس على التقيد الكلاسيكي بالمكتوب منها. كل هذا جعل منه لونًا موسيقيًا قادرًا على تقمص أي مادة لحنية، وهضمها ثم إخراجها بحلّة أخرى. إذًا، يحمل الجاز خصائص طفروية، تمكّنه من التحوّر والتطور جرّاء أي جديد.
وهذا بحد ذاته يضمن له البقاء طويلًا، من دون أن ينال منه الزمن، إذ يمكننا الاستماع إلى عازف الكلارينيت والسوبرانو ساكسفون سيدني بيشيت (Sidney Bechet) ابن نيو أورلينز، الذي عمل موسيقياً محترفاً في سن الثالثة عشرة عام 1910، وذلك قبل أن يحمل هذا النوع اسمًا معروفًا على نطاق واسع. ترك بيشيت أثرًا عميقًا حتى يومنا هذا بطريقة أدائه وارتجالاتة الرائعة على الكلارينيت والسوبرانو ساكسفون.
أولى تسجيلاته كانت عام 1923 التي ظهرت في فيلم Wild Cat Blues. وبذات الشغف، نستمع للمؤلف وعازف التينور ساكسفون كاماسي واشنطن ذي الـ39 عامًا في ألبوماته الحديثة، مثل Harmony of difference الصادر عام 2017 حيث يتميز واشنطن بقدراته الارتجالية المبشرة في الجاز المعاصر.
عام 1955، اجتمعت الدول التي قررت الابتعاد عن الحرب الباردة وتكتلاتها في باندونغ في إندونيسيا، مطالبة بمكان لها على المسرح العالمي، وإيجاد أسس جديدة للعلاقات الدولية. ولتحسين الصورة العامة للولايات المتحدة، في ضوء عدم المساواة والتوتر العنصري، أرسلت وزارة الخارجية، ابتداءً من عام 1956، ما يسمى بسفراء الجاز إلى الخارج، ومنهم لويس أرمسترونغ، وبيلي هوليداي، وديزي خيليسبي، وديف بروبيك، وبيني غودمان، وديوك إلينغتون، وغيرهم. ذلك أن وصول هؤلاء الموسيقيين، ذوي الأصول الأفريقية، إلى الشعوب المطلوب إقناعها سيكون أسرع، خاصة أن كثيراً من هذه الشعوب، أيضًا، ليست من ذوي البشرة البيضاء. أثمرت هذه السفارات عن نتائج لم تكن في الحسبان، إذ استقبلتها الشعوب التي تشربت هذه الموسيقى بنهم كبير بحفاوة.
وبمرور الوقت، بدأت نتائج التداخل والاحتكاك بين موسيقى الشعوب وموسيقى الجاز بالتبلور، ليتبين في ما بعد أن الجاز تمفصل مع موسيقى الشعوب في نقاط مشتركة تجمع ما بينها، كالارتجال والعفوية والبساطة والاهتمام بالتعبير البوحي، بدلاً من التجسيدي. هكذا، ظهر الجاز اللاتيني الذي تدفق بإيقاعات السامبا والسالسا والتانغو، كما قدمه لنا الكوبي آرتورو ساندوفال، وأيضا الجاز الشرقي بإيقاعاته ومقاماته الغنية، كما قدمته تجربة توفيق فروخ مثلاً، أو تجربة زياد الرحباني. كان لحفل لويس أرمسترونغ في بيروت، على مسرح الأونيسكو عام 1959، وحفل ديوك إلينغتون وأوركستراه في دمشق على مسرح معرض دمشق الدولي عام 1963، بالغ الأثر، خاصة في تلك الفترة من تاريخ هذين البلدين.
من جهة أخرى، تأثرت موسيقى الجاز بموسيقى الشعوب التي اختلطت بها أثناء رحلات سفراء الجاز حول العالم. في هذا السياق، ذكر ديوك إلينغتون في سيرته الذاتية سلسلة من الحكايات حول ما رآه واختبره خلال سفره. خلال فترة الستينيات، كان تأثر إلينغتون واضحًا بأفكار مارشال ماكلوهان المتنامية حول العولمة والوعي الاجتماعي المعاصر لها، فالغرب يسعى باتجاه الشرق الذي بدوره يتجه غربًا، لتكون النتيجة قرية عالمية ذات هوية واحدة. على خلفية كل ذلك، قدّم إلينغتون عمله The Afro-Eurasian Eclipse في عام 1971، واستهله بعبارات ماكلوهان، عارضًا فيه انطباعاته عن الأماكن التي زراها في العالم. كما لا يمكننا تجاهل التأثير المتزايد للموسيقى الإلكترونية، والموسيقى العالمية الطليعية، كمسؤول جزئي عن حركة التجريب الموسيقي في أواخر الستينيات، والتي طاولت الجاز وأعطته صبغة مختلفة.
لم يستطع مؤلفو الموسيقى الكلاسيكية مقاومة تأثيرات موسيقى الجاز، التي ظهرت في زوايا ومفاصل الأعمال الكلاسيكية، بل تجلت أيضًا في أعمال كاملة كُتِبت على مدى القرن العشرين، مثل باليه La Creation Du Monde للفرنسي داريوس ميلود، وEbony Concerto لإيغور سترافنسكي، وMusic For Theater لآرون كوبلاند. ومن أوائل الأعمال التي استحضرت موسيقى الجاز إلى قاعات الأوبرا، كان Rhapsody In Blue، للأميركي جورج غيرشوين.
عُرض هذا العمل لأول مرة في عام 1924، في قاعة إيولايان في مدينة نيويورك، بحضور شخصيات بارزة مثل سيرغي رخمانينوف. تحمل هذه القطعة، كلاسيكيًا، صفة الكونشيرتو، لأنها مكتوبة للبيانو المنفرد والأوركسترا. هذه الـ"رابسودي" عبارة عن ست أفكار موسيقية منفصلة بنيويًا، تنتمي كل واحدة منها إلى نوع موسيقي دارج ومحبوب في الموسيقى الأميركية، عرضها غرشوين مترابطةً بعضها ببعض، عبر حوارية بين البيانو والأوركسترا.
يُفتتح العمل بصولو آلة الكلارينيت الشهير، الذي ارتجله أثناء البروفات عازف الكلارينيت روس غورمان (Ross Gorman) من باب الدعابة، لكن المؤلف اعتمده دخولًا للعمل لما يحمله من روح الجاز العفوية. يُعتبر هذا الدخول هو الموضوع الأول في العمل، ثم ما يلبث أن يظهر الموضوع الثاني، ذو القوام البلوزي، تؤديه النحاسيات في خلفية صولو الكلارينيت.
بصوت مكتوم، يعيد الترومبيت الموضوع الأول، ليدخل بعده البيانو بالموضوع الثالث، ذي قوام الراغتايم. وفجأة يعلو صوت الأوركسترا مع صنوج تعزف الموضوع الأول بطاقة عالية. هكذا، وعلى طول الجزء الأول من الرابسودي، تتناوب آلات الأوركسترا مع البيانو، في تناول المواضيع الثلاثة التي ذكرناها، مع تقلبات إيقاعية راقصة، وتنويعات ديناميكية في الصوت والألوان الأوركسترالية. تظهر بقية المواضيع تباعًا في الأجزاء التالية، لتكسر التكرار وتضخ روحًا جديدة في العمل.
تغلغل الجاز على مدى المئة عام الماضية في تفاصيل الثقافة البشرية، كفكرة ثورية خرجت من قاع المجتمعات المستعبدة لمئات السنين، والتي تحسست الحرية عبر الغناء ليخفف عنها شقاء الحياة اللامتناهي. لم يمضِ وقت طويل، ريثما اتضح أن الجاز في الحقيقة هو أكثر من مجرّد نوتات حرة وإيقاعات رشيقة، وأكثر من مجرّد بناء فوضوي ضمن أنساق منظمة، بل تجلى كجسر لقاء بين الثقافات الإنسانية، بما يحمله من خصائص ترتكز على الحرية والاعتراف بالآخر وموروثه الحضاري، كاسرًا التصنيفات العرقية والطبقية التي فرضتها السياسات الرأسمالية للأنظمة العالمية.