موريس رافيل... موسيقى نجسّ بها الزمن

07 مارس 2021
سبق له أن وصف الفن بأنه "خداع" (بوريس روجر فيوليت/Getty)
+ الخط -

أشهر المقطوعات، أبسطها وأشدها تعبيراً عن شخصية مؤلفها موريس رافيل Maurice Ravel (1875 - 1937)، الذي يصادف اليوم ذكرى ميلاده، هي "بافان" (رقصة بطيئة لأميرة فقيدة Pavane Pour Une Infante Defunte) كتبها في البدء لآلة بيانو وحيدة، ثُم أعاد إصدارها بنسخة موزّعة لفرقة أوركسترالية.

تبدأ القطعة بسطوع لحنٍ لبوق هورن منفرد، يرافقه آخر، يمتد على أفق هارموني رحب، تشارك برسمه آلتي باصون (من أسرة النفخيات الخشبية). ما يلبث اللحن إثر انزياح شعوري يُحدثه مرور الأصابع على أوتار الهارْبْ، أن يعبر على عتبة خماسية نحو فضاء مقامي آخر، من مادة أثيرية يُحدثها انسجام الكلارينيت والأوبوا، مع لحن الكمان الواطئ، المخملي والدافئ. 

في بُعدٍ خفي خلف المشهد السرمدي، تدقّ الوتريات بأسلوب النقر على الأصابع، دقّات خافتة، صارمة منتظمة، وكأن وجهتها اللانهاية؛ إنه الزمن. هنا، تحضر في ذهن السامع المصغي نظرية "المُدة" La Durée (في الزمن والوعي) لمعاصر رافيل، الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون Henri Bergson، والتي تتحدث عن حركيّة الزمن؛ ما أن يهم المرء بقياس لحظة، أو الإمساك بها فيزيائياً، حتى تنقضي، وعليه، فالزمن لا يمكن إدراكه إلا بالخيال، أو الحدس.

تمثيل الزمن في موسيقى رافيل، أو تأمله ميتافيزيقياً من خلال أشكال إيقاعية وعناوين ومضامين أدبية، يكاد أن يُسمع في كل عملٍ من أعماله، كأوبرا "الساعة الإسبانية L’heure Espagnole التي تتناول، بشكل فكاهي، حبكة غرامية تلعب الساعة الميكانيكية فيها دوراً رمزياً، باعثاً للقلق المُسخِّن للحدث الدرامي، ومن خامس لوحة من متتالية "حارس الظلام" Gaspard De La Nuit بوحي قصيدةٍ للشاعر الفرنسي برتراند، عنوانها "المشنقة" Le Gibet حيث الضرب الإيقاعي المؤذن بحلول لحظة تنفيذ الحكم على الجاني بالموت. 

لم يكن الزمن شاغل بال رافيل وحده، وإنما شاغل كل مبدعي ومثقفي عصره. وما أشبه زمانه بالزمن الراهن، فالقنطرة التي وصلت بين القرنين، التاسع عشر والعشرين، قد شهدت تسارعاً تكنولوجياً وخصوبة إبداعية وارتدادات اجتماعية وسياسية، تكاد أن تكون مرآةً للقنطرة الواصلة بين القرن العشرين والحالي. 

ثورة اتصالات فجرها الهاتف والمذياع.. ثورة إبداعية أحدثتها الكاميرا الضوئية والسينمائية وبوق الحاكي، وأخرى اجتماعية تمثلّت ببروز قطبين طبقيّين للثورة الصناعية برجوازية وعماليّة، وسياسية تمثّلت باحتدام النزاع بين القوى الرجعية، الإمبراطورية والملكية، والتقدمية الشيوعية والديمقراطية الاشتراكية، ومن ثم صعود الهويّاتية الفاشية اقتراباً من فناء محتمل للجنس البشري، إثر تعاقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.

تسارع في الأحداث والمنجزات، نجم عنه قلقٌ وجودي عميق إزاء مفهوم الوقت. العدسة الفوتوغرافية تحاول تجميد اللحظة في الصورة بُغية إدراكها. في الشعر، يعنون الشاعر الفرنسي السوريالي آندريه بريتون André Breton  قصيدته سنة 1924 "وقت أقل" Moins De Temps. في الفنون التشكيلية في سعي إلى إبطاء الزمن، أذاب سيلفادور دالي الساعات في لوحته الشهيرة "مثابرة الذاكرة" The Persistence Of Memory سنة 1931. أما اللوحة الانطباعية بعيون كل من الرسامين الفرنسيين سيزان ومونيه، فكانت ترصد العالم صورةً مطموسةً مضطربة، محجوباً عنها اليقين.   

بافان، أو مرثية رافيل باللحن والعنوان، انعكاسٌ آخر لروح العصر في روح المعاصِر، يتمثّل في قراءة الوجود البشري من منظور التحليل النفسي. فالمقطوعة لا تسعى فقط إلى إحياء صورة طفلة صغيرة، أميرة إسبانية شابة ترقص في أرجاء بلاط قروسطي، وإنما من خلال طبيعة ألحانها وانتقالاتها الهارمونية ومعالجاتها التوزيعية، (أيّة آلة تعزف أيّ صوت)، تبدو كأنها تقترب من الطفل الذي ما زال يسكن لاوعي المؤلف، ولعله لاوعي المستمع أيضاً. فكرة العودة للطفولة، أو الطفلية Infantilism كمسبار سيكولوجي، كانت قد شكلت المحور الذي يدور حوله مذهب سيغموند فرويد بقصد تتبع الدافع الجنسي في بواطن اللاشعور.

تلك المظاهر الطفلية، لم تميّز لغة رافيل الميلودية ونُسجه الهارمونية فحسب، وإنما أيضاً جوانب من شخصيته، إذ هو لم يتزوّج قط، ولا أخبار تذكر عن خوضه أيّ علاقات عاطفية، كانت تربطه بوالدته إسبانية الأصل من إقليم الباسك، مشاعر حب ذات طبيعة أوديبية، حتى أن بعض الدراسات البيوغرافية (تأريخ السير الذاتية) ترجح ميوله المثلية. ففي قراءة لواحدة من مقطوعاته، وهي "مينويت عتيقة" Minuet Antique يرى المؤرخ الفرنسي بينجامين إيفري Benjamin Ivry في كتابه عن رافيل بعنوان "حياة" A Life إن بها "نفحات عشق من تراث شعر الغلمان العربي".

مظهر آخر لعصره احتضنه رافيل أسلوبياً وجمالياً هو التكنولوجيا. هو واحدٌ من روّاد الأسلوب المينيمالي، التصغيري أو التقليلي، الذي يبدو رائجاً منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. عبّر عن افتتانه بالصنعة التشكيلية في الكتابة الموسيقية أو ما كان يُطلق عليه الحيل Artifice. قد سبق له أن وصف الفن بأنه "خداع" Imposture، إلا أن فنه، بخداعه، أشبه بالقناع الذي إن أحسن المؤدي أو المصغي ارتداءه، ثم خلعه، كشف ما خلفه، لينجلي سحرٌ دفين، مشحون بالعواطف، محّمل بالفكر، آسرٌ للجمال. 

إن نظر المرء إلى واحدة من مدونات أعماله، فسيرى النوتات وقد شُكّلت أشبه بنماذج زخرفية من الهندسة الفراغية. حين تُعزف، بمهارة وحساسية، ستتناهى كما لو كانت ألعاباً ميكانيكية، كالتي كان رافيل يهوى جمعها في منزله كالطفل، إلا أن لتلك الألعاب أرواحاً تسكنها، أو روحاً تُسيّرها من خلف البنيان، روح الفنان، تسعى إلى جسر الهوة ما بين الروح وبين المادة، بأسلوبٍ تُمكن تسميته بالشعرية الآلية.   

خاصية أخرى ميّزت رافيل مسلكاً حياتياً ومنهجاً فنياً، وهي تجسيده لشخصية مثقف الحاضرة الكوزموبوليتي، أحسّ بأوروبا الكولونيالية بوتقة صهرٍ للقاصي والداني من الثقافات. ففي نهاية القرن التاسع عشر، حوّلت العواصم الأوروبية، كباريس ولندن وبرلين، إلى موانئ للثقافة كالتي كانت عليها روما، وبغداد والقسطنطينية.

حينها، لم يكن الغرب، كما هو اليوم، مُصاباً بالرهاب من الاستيلاء الثقافي Cultural Appropriation، ما حوّل تلك الحواضر إلى مخابر إبداعية تنفتح في آن معاً، على كلٍّ من تنوّع التراث الأوروبي، وإرث الشعوب المستعمرة. من هنا، أثرت الجابونيزم Japonism؛ أي العنصر الثقافي الشرق آسيوي، والأفريقي (الأفريكانيزم Africanism) في لغة رافيل الهارمونية ومعاصريه كـ ديبوسي Debussy وبولنك Poulanc، بالإضافة إلى السمة الشرقية الأندلسية للموسيقى الإسبانية من خلال مؤلفاته كـ "بوليرو" و"الرابسودي الإسباني".

بافان، اللوحة الشعرية والمرثية التي تجمع بين الموت بمُضيّ الزمن، وبين الحياة برمز الطفولة، بين عذوبة ألحانها وانسيابيتها، وبين دقّات مُسنّنات ساعتها الآلية، بين أسلوب الخداع بالبراعة، وبين السمو المقترب من وحي الألوهة، بين زوال اللحظة وبين تلمّس الأبدية، جميعها ثنائياتٌ جسدها رافيل بوجوده كما جسدها بموسيقاه، إذ هو كان ذاته الشخص النحيل والوديع أنثويّ السمات، والهامد البارد، قاسي الملامح وحاد القسمات، كان القريب المُنفتح، وكان البعيد المنعزل والمُنغلق، عبقريته تكمن في تأليفه البديع، المعقد والبسيط، بين متناقضات الحياة، ضمن انسجام فريد، يعبر بصدق عميق عن الإنسان.

دلالات
المساهمون