بعد عرض أكثر من نصف أفلام المسابقتين الرئيسيّتين في الدورة الـ57 (30 يونيو/حزيران ـ 8 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي"، يُمكن رصد عوامل ونقاط مشتركة بينها، تؤكّد كلّها أنّ هناك حرصاً على اختيار أفلامٍ مختلفة الأنواع، تحقّق قدراً كبيراً من التوازن الفني والجمالي والنوعي والجغرافي، وإنْ تمحورت غالبية مواضيعها حول الحبّ والإيمان والخوف من الوحدة، والمستقبل والعالم، والعودة إلى الوطن، والهجرة، الجسدية أو المجازية، وتوظيف تيمة الرحلة ـ السفر والتنقّل، المُلاحَظة بقوّة في معظمها.
في مسابقة "الكرة البلورية"، هناك 11 فيلماً، منها "الفتيات بخير" للإسبانية إيتساسو أرانا: حكاية صيفية عن 4 ممثلات شابات، وكاتبة تدرّبهنّ على مسرحية، في مطحنة قديمة معزولة عن العالم، في الريف الإسباني. هناك، يتاح لهنّ التعرّف بعضهنّ إلى بعض، وعلى أفكار المسرحية المرتبطة بالحبّ والجمال والإيمان والصداقة والتمثيل والموت. يُعتبر "الفتيات بخير" من أضعف أفلام المسابقة، قبل أيامٍ قليلة على انتهاء الدورة هذه، إذْ غلبت عليه الثرثرة، وغابت السينما، وإنْ اتّسم التمثيل ببعض الجودة.
إليه، هناك الوثائقي اللبناني "الرقص على حافة بركان" لسيريل العريس، الذي يستعرض كيف دمّر انفجار مرفأ بيروت الكارثي (4 أغسطس/آب 2020)، ليس فقط جزءاً كبيراً من العاصمة اللبنانية، بل أيضاً ما بقي من آمال سكّانها فى حياة كريمة. فيه، يصوّر عريس كواليس إنتاج فيلم "كوستا برافا" لمونيا عقل، وتصويره وإخراجه، وكيف أنّ ما حدث وتباعته شكّل صدمة لفريق العمل، وعطّل التصوير، وجعل الأمور أعقد. بتصويره الكواليس، يطرح عريس حالة بلدٍ مريض، يواجه معضلة كبيرة، ويتساءل أهله دائماً: هل يجب أن يبقى المرء في وطن محبوب، وإن كان ذلك يعني العيش من دون كرامة إنسانية، ومن دون كهرباء؟
في "شخص حساس" للتشيكي توماس كلاين، رؤية هزلية قاتمة لجانب آخر من الحياة، في دراما غريبة وعبثية وخيالية، تقارب الفانتازيا كثيراً، يحاول فيها الأب مور، الممثل المتجوّل، وزوجته مام، وابناهما، العودة إلى الديار. لكنّ مواقف وظروف، واضطرابات الحياة، في الطريق كلّها، تُكسب الأب حكمة، والنظر إلى الحياة بمنظور آخر. الفيلم تجربة سينمائية مسلّية ومجنونة، عن الحبّ والخوف من الوحدة والعزلة والفَقد والتقدّم في العمر والحياة البرّية.
للسينما الإيرانية حضور في مختلف الأقسام. في المسابقة، هناك "الشِباك الفارغة" لبهروز كراميزادة، الذي تدور أحداثه في إطار دراما واقعية تجري في إيران المعاصرة التي تُعادي الحقّ فى الحبّ: يواجِه الحبيبان أمير ونرجس سوء حظ سيئ للغاية، يقف بالمرصاد أمام حبّهما وطموحهما وأحلامهما. نرجس ابنة عائلة ثرية، وأمير ليس كذلك، ما يضعه أمام خيار يدفعه إلى مزاولة مهنة خطرة وغير قانونية، والمجازفة بحياته، ثم الفرار من البلد عبر البحر.
في أحد أقوى أفلام المسابقة إلى الآن، ينتقد البلغاري ستيفان كومانداريف، في "دروس بلاجا"، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في بلغاريا ما بعد الشيوعية. بلاجا أرملة سبعينية مستقيمة وصارمة ومتقاعدة، درّست الأدب واللغة أعواماً طويلة، والآن تعاني ضائقة مالية إثر وفاة زوجها، ضابط الشرطة، وعدم تمكّنها من دفنه بشكل لائق. رغم توفر بعض المال بفضل ابنها سائق الشاحنة المغترب، تتعرّض لعملية نصب عبر الهاتف، وتفقد المال. تنقلب حياتها، وتتعقّد الأمور أكثر بعد عثورها على عمل، عندما تكتشف أنّها تعمل لدى عصابة لسرقة الأموال والنصب والاحتيال عبر الهاتف.
الفيلم التشيكي الجيد "لم نكن معاصرين أبداً"، لماتي هوباتشيك، دراما بوليسية مثيرة، تدور أحداثها في ثلاثينيات القرن الـ20: تعثر زوجة مدير مصنع على جثة رضيع في فناء المصنع. تتطوّر الأحداث وتتعقّد بعد اكتشاف أنّ الرضيع مزدوج الجنس، وهذا لم يكن شائعاً أو معروفاً آنذاك، ما يُثير توتّراً وقلقاً كبيرين، خاصة مع اكتشاف هوية الأم/الأب مزدوج الجنس أيضاً. بشرحه الأمر نادر الحدوث، يحاول هوباتشيك طرح قضية المولودين بأعضاء ذكورية وأنثوية في آنٍ واحد، من منظور إنساني تقدّمي، وإنْ لم يأتِ الطرح بجديد.
"بروكسيما" المسابقة التالية في الأهمية للمسابقة الرئيسية، التي دشِّنت في دورة العام الماضي بديلاً من مسابقة "شرق الغرب"، والتي تتّسم أفلامها بتجديد وتجريب وابتكار وخيال جامح. فيها 12 فيلماً، منها الوثائقي "أرسيني. آخرة مُذهلة" للروماني ألكسندرو سولومون، عن شخصية الكاهن وعالم اللاهوت والصوفي أرسيني، الذي اضّطهد في الفترة الشيوعية، وهناك شكوك حول وفاته. المُثير للانتباه أنّه صار قدّيساً وصاحب كرامات ومعجزات لدى مؤمنين عديدين، رغم أنّه لم يكن كذلك في حياته. في الفيلم، العادي جداً، يُعيد سولومون تمثيل مَشاهد من حياة الكاهن، ويناقش معجزات منسوبة إليه مع مؤمنين به، ويتأمّل في الحالة الراهنة لعالم ومجتمع وبشر متناقضين، يسعون بقوّة إلى الحفاظ على الإيمان بالمعجزات والخرافات، في عصر مليء بثورة علمية ومعلوماتية.
إلى ذلك، يروي "الأطفال المفقودون"، للبلجيكية ميشيل جاكوب، حكاية أودري (10 أعوام) وإخوتها الـ3، الذين وجدوا أنفسهم متروكين في منزل قديم، حيث كان يُفترض بهم تمضية عطلة الصيف مع والدهم، الذي اختفى فجأة ذات ليلٍ. ينتظر الأطفال عودته عبثاً، ويدركون سريعاً أنّه يتعيّن عليهم الاعتناء بأنفسهم، وهذا لن يكون سهلاً أبداً، والغابة تحيط بالمنزل المنعزل، حيث تحدث أشياء غريبة، وتظهر أشباح مخيفة، خاصة بعد حلول الظلام. على الصغار مواجهة هذا كلّه في رعبٍ نفسي، وخوف وهواجس رُبِطَت، بمهارةٍ وذكاء، بما سيكونون عليه في المستقبل. الفيلم جيد جداً، وإن أفسد الجزء الخاص بالشبح وظهوره الكثير، وكان زائداً فعلاً.
يطمح العشريني عدن (نبهان ريزوان) أنْ يكون ممثلا. يجهد من أجل ذلك، فيخوض مغامرات كثيرة، ويقع في محاولات فاشلة، وفي حماقات، بحثاً عن عمل ودور مناسب، وشخصية سينمائية يرغب في تأديتها. هذا يرويه "في الكاميرا"، للبريطاني نقاش خالد. في هذا السياق، يناقش الفيلم أخلاقيات العمل التجاري، ومفهوم الهواة والاحترافية والإحباطات والهواجس، والإفلاس الدائم. في الوقت نفسه، يستكشف موضوعات اجتماعية وإنسانية بنبرة نقدية، لا تخلو من إنسانية وطرافة بعض الشيء، وإنْ كان "في الكاميرا"، إجمالاً، دون المستوى، ولم يأت بجديد أيضاً.
في اليوناني "جنين اليرقة"، لكيروس بابافاسيليو، تعيش بينيلوبي وزوجها إيزيدوروس في عالمٍ رومانسي خاص بهما. لكنْ، في هذا العالم، انتفت مفاهيم الزمن المعروفة، فلم يعد الزمن يسير بصورة خطية كما نعرفه. كما تمكن إضافة وقت، أو حذف أيام ومحوها كلّياً، ما يجعل الأيام والتواريخ تظهر بشكل عشوائي، فلا وجود للماضي والحاضر والمستقبل. هذا يجعل العلاقات متغيّرة باستمرار. وذلك في إطار حبكة خيالية غامضة، عن مفارقات الزمن والمكان والعلاقات الرومانسية والحَمل والولادة، ينقصها الإقناع والأصالة وعدم الافتعال.
البولندي "إيماجو"، لأولغا تشايداس، أهم وأقوى أفلام المهرجان (أقلّه حتى 4 أيام قبل انتهاء دورته الجديدة هذه). أحداثه تحصل في نهاية ثمانينيات القرن الـ20، قبل هبوب رياح التغيير في بولندا الشيوعية، عبر سرد حياة الشابة والفنانة إيلا (لينا غورا)، التي تكافح شياطينها الداخلية والخارجية، المتمثلة في أسرة وأحباء وأصدقاء ودولة ونظام ومجتمع. من ناحية أخرى، هناك توقٌ إلى الحبّ، تستعيض عنه بالتدخين الشره والكحول، وبحياة الليل والانطلاق والحرية. في الفيلم تكامل كبير: سيناريو ذكي وصادق، وأداء بارع للينا غورا، وحركة كاميرا وانتقالات مشهدية متميّزة جداً، إلى جانب جماليات فنية أخرى لافتة للانتباه.
الوثائقي الفرنسي "الحفاظ على أمي"، لإميلي بريسافوين، متوسّط الجودة: عن عائلة المخرجة، خاصة والدتها غير المتصالحة معها، وشقيقها المريض. في رحلة حميمة ساحرة، تغوص خلالها في أعماق الروح، مُطلقة صرخة سينمائية قوية لمخرجة تسبر، بعمق وصدق، أغوار وآثار الحب والكراهية والمشاعر المتضاربة، والعلاقات الأسرية المتصدّعة، خاصة بين أمٍّ تركت ابنتها ولم تُعبّر لها عن حبّها، وفتاة لا تزال تعاني تبعات هذا الجرح.
في التشيكي "حرارة شديدة"، لألبرت هوسبودارسكي، تدور الأحداث في إطار خيالي فانتازي، لا داعي له أبداً: تنفصل قطعة هائلة الحجم من الشمس، وتتجه نحو كوكب الأرض، الذي ترتفع درجة حرارة سطحه بشكل غير متوقّع، ولا يُمكن تصوّره، إذ إن درجة الحرارة التي يبدأ معها الجسم البشري في الذوبان ليست معروفة. هذا كلّه إطار عام لتناول حياة ألبرت (فنسنت هوسبودارسكي)، البالغ من العمر 18 عاماً، الذي يضلّ طريقه عند ذهابه إلى كوخ للقاء أصحابه في الغابة. يتعرّض في رحلته تلك لصنوفٍ من العذاب والتجارب والخبرات.
في السويسري، الطريف والذكي والصادق، "قُل وداعاً للإله"، يتحدّث مخرجه توماس إمباخ عن "إله السينما، أو غود"، جان ـ لوك غودار، كمخرج وإنسان، في محاولةٍ لتكريم غودار وسينماه، عبر سفر المخرج، سيراً على قدميه، من زيورخ إلى جنيف، لإقناع غودار بأن يفتح له الباب ليُسلِّم عليه، ويحظى بلقطة معه. فيلم طريق، يحاول أنْ يُقرّبنا من إمباخ، في شبه سيرة ذاتية، ومن غودار وعالمه، ويرينا العالم ويفلسفه لنا عبر السينما وفنيّاتها وجماليّاتها.