مها حاج: "ما بعد" العنف وما يتبقّى من ألم

19 سبتمبر 2024
في مهرجان لوكارنو السينمائي أثناء تسلّمها الجائزة (أليساندرو ليفاتي/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **إنجازات مها حاج السينمائية:** المخرجة الفلسطينية مها حاج تبرز في السينما بقصص تمزج بين الألم الشخصي والمعاناة الجماعية. فيلمها القصير "ما بعد" حصل على جائزة Pardo d'Oro Swiss Life لأفضل فيلم قصير في مهرجان لوكارنو السينمائي، بعد نجاح فيلمها "حمى البحر الأبيض المتوسط" في مهرجان كان 2022.

- **قصة "ما بعد" ومعانيه:** الفيلم يعكس شجاعة الفلسطينيين وصمودهم، حيث يروي قصة زوجين يحاولان التعايش مع ألم الفقد في عزلة ريفية، ويخلقون عالماً بديلاً للهروب من الحقائق القاسية، لكن هذا العالم يبدأ بالانهيار عند وصول صحافي يكشف الحقيقة المؤلمة.

- **رؤية مها حاج للأفلام القصيرة:** تؤمن حاج بأن الأفلام القصيرة يمكن أن تكون مؤثرة بقدر الأفلام الطويلة، حيث يتطلب ضغط الزمن دقة كبيرة في السرد. في "ما بعد"، نجحت في نقل معاناة الشخصيات بعمق، مع ترك إشارات واضحة حول النضال الفلسطيني.

المخرجة الفلسطينية مها حاج من أبرز الأصوات السينمائية التي تعكس بمهارة قصصاً تمزج بين الألم الشخصي والمعاناة الجماعية. في فيلمها القصير الأخير، "ما بعد" (بالإنكليزية: Upshot)، تؤكد مجددّاً أن الأفلام القصيرة يمكن أن تحمل تأثيراً كبيراً يعادل أو يفوق أحياناً الأفلام الطويلة. بعد النجاح الذي حققته في فيلم "حمى البحر الأبيض المتوسط"، الذي حصد جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان 2022، يستمر تألّق حاج مع فيلم "ما بعد" الذي حصل على جائزة Pardo d'Oro Swiss Life لأفضل فيلم قصير في مهرجان لوكارنو السينمائي، إضافةً إلى جائزة لجنة التحكيم الشباب. تسلّمت حاج الجائزتين في حفل الختام، مضيفةً إنجازاً جديداً لمسيرتها الفنية.
لكن الجوائز ليست سوى جزء من الحكاية. فالفيلم نفسه يعكس شجاعة الإنسان الفلسطيني وصموده في وجه المعاناة والظلم المستمر. يقدّم "ما بعد" قصة عن زوجين، سليمان ولبنى، يحاولان التعايش مع ألم الفقد في عزلة ريفية، بينما يحافظان على توازن هش بين واقع مؤلم وآخر بديل يصنعانه للهروب من الحقائق القاسية التي تطاردهما.
في البداية، قد يبدو "ما بعد" دراما عائلية تقليدية: سليمان، الطبيب المتقاعد، وزوجته لبنى، يعيشان في مزرعة معزولة في مكان وزمان غير محددين. يقضي سليمان يومه في الحقل، بينما تهتم لبنى بالمنزل. تتخلّل حياتهما الحوارات حول أطفالهما الخمسة، لكن خلف هذه الحوارات اليومية تكمن قصة أعمق بكثير من الحزن الذي لا يزال يطارد الزوجين.
في حديث مع مها حاج حول الفيلم، تقول لـ"العربي الجديد" إن "ما بعد" لم يكن في البداية عن غزة. "لكن، مع تطور الفكرة، بدأت الأحداث المروعة في القطاع، والإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على العائلات الفلسطينية، تتداخل تلقائياً مع قصة الفيلم. التوقيت كان مصادفة مؤلمة، لكن الفيلم أصبح وسيلة لتوثيق الحقيقة والآلام التي تعيشها العائلات الفلسطينية التي فقدت كل شيء".
تُبرز مها حاج من خلال تصويرها اليومي للزوجين كيف يحاولان الهروب من الماضي المؤلم بخلق عالم بديل خالٍ من الألم. لكن هذا العالم الهش يبدأ بالانهيار عندما يصل صحافي يطلب مقابلة سليمان، ليكشف الحقيقة التي يحاول الزوجان تجاهلها، وهي الحقيقة المؤلمة التي يعيشها كل فلسطيني تحت الاحتلال.
على الرغم من أن كثيرين يعتبرون الأفلام القصيرة أقل مكانة وتأثيراً من الأفلام الطويلة، تؤمن مها حاج بالعكس. في صناعة تتجه نحو الأفلام الطويلة التي يسهل توزيعها، ترى حاج في الأفلام القصيرة وسيلة مثالية لسرد قصص عميقة في وقت محدود. تقول: "يعتقد بعضهم أن صناعة الأفلام القصيرة أسهل. لكن الواقع هو أن ضغط الزمن يتطلب دقة كبيرة. كل مشهد وكل كلمة يجب أن تخدم القصة. في "ما بعد"، كنت أهدف إلى خلق شيء يبقى مع المشاهدين لفترة طويلة بعد انتهاء الفيلم".
ورغم التحديات التي تواجه صناعة الأفلام القصيرة، تستمر مها حاج في إثبات أن هذه الأفلام يمكن أن تحمل تأثيراً أكبر من بعض الأفلام الطويلة. في ثلاثين دقيقة فقط، نجحت حاج بنقل معاناة ومشاعر الشخصيات بعمق يجعل المشاهد يتفاعل مع القصة.
مثل معظم أعمال مها حاج يبتعد "ما بعد" عن التعليق السياسي المباشر، لكنه يترك إشارات واضحة حول النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. تدور أحداث الفيلم في المستقبل، لكن ألم الفقد والمعاناة جراء الصراع في غزة يظهر جليّاً في خلفية الفيلم. من خلال تصوير معاناة الزوجين، تعكس المخرجة الألم الذي يعانيه الفلسطينيون تحت الاحتلال والإبادة الجماعية المستمرة.
في حديثها عن شريطها القصير، توضح حاج: "الفيلم ليس عن السياسة، بل عن الناس. إنه عن كيفية التعامل مع الحزن الذي لا يُحتمل. سليمان ولبنى خلقا لنفسيهما عالماً بديلاً هروباً من الواقع المرير، لكن هذا العالم غير مستدام. في النهاية، تظهر الحقيقة".
تلك الحقيقة التي تحاول مها حاج نقلها هي الواقع القاسي الذي يعيشه الفلسطينيون يوميّاً بسبب الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن الفيلم لا يظهر مشاهد مباشرة للعنف، فإنه يركّز على ما يحدث بعده؛ على الألم الذي يتركه، وكيفية محاولات الناس العيش رغم كل ما مرّوا به.
منذ بداياتها، استمرت مها حاج في إثبات نفسها مخرجةً متميزة. من أول أفلامها، "برتقال" (2009)، الذي فاز بجائزة الجمهور في مهرجان مونبلييه الفرنسي، وصولاً إلى فيلمها الوثائقي "خلف هذه الجدران" (2010)، وفيلمها الطويل "حمى البحر الأبيض المتوسط" (2022)، نجحت حاج في تقديم قصص تتناول الواقع الفلسطيني، وتعكس قضاياه الإنسانية.
تقول حاج: "بالنسبة لي، الأفلام ليست مجرد سرد قصص. إنها وسيلة للتأمل وللتفكير، وأحياناً للعلاج. كان "ما بعد" تحدياً كبيراً بسبب الموضوعات المؤلمة التي يتناولها، لكنني أعتقد أنه مهمّ لهذا السبب. يجب علينا مواجهة هذه المشاعر بدلاً من التهرب منها".

رحلة مها حاج الإخراجية مليئة بالإصرار والإبداع. هي ليست مجرد صانعة أفلام، بل شاهدة على معاناة شعبها وصموده في وجه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها.

في "ما بعد"، تخلق مها حاج تجربة سينمائية تتجاوز حدود الزمان والمكان. الفيلم لا يعكس فقط معاناة العائلات الفلسطينية التي تفقد أحباءها بسبب الاحتلال الإسرائيلي، بل يجسّد تجربة إنسانية في مواجهة الفقد والحزن. تقول إن "ما بعد" يمثّل "تأملاً في القوة التي لا تُقهَر للروح البشرية. إنه فيلم يرفض الهروب من الحقيقة، حتى عندما تكون تلك الحقيقة مؤلمة إلى حد لا يُحتمل".

المساهمون