وُلد فن الأوبرا من تصورات رجعية، غايتها الإعلاء من شأن اللحن الأحادي (المونودي)، على حساب الموسيقى متعددة الأصوات. لكنّ أوبرا أورفيوس، للإيطالي كلاوديو مونتيفيردي، أعادت لهذا الفن صوابه الموسيقي. بعد قرن ونصف، استلهم الألماني كريستوفر غلوك موضوع الأسطورة اليونانية، أورفيوس ويوريديتشي، لإصلاح الأوبرا وتخليصها من الغناء الفضفاض.
تتفق الكتابات الموسيقية، على أنّ أوبرا أورفيوس لمونتيفيردي (1607)، هي البداية الفعلية لفن الأوبرا. والمؤكد أنّ أول أوبرا عرضت في فلورنسا عام 1597، بعنوان "دافني"، وهي عمل مفقود، ألفها عضو جماعة كاميراتا، جاكوبو بيري.
وبحسب الأعمال التي تلت دافني، كانت الأوبرا باهتة موسيقياً، ومتخبطة بسحابة ليركية؛ فاقتصرت أهميتها على طابع تاريخاني. ولعلّ أسلوب الريستاتيف، كان العُنصر الدرامي الوحيد المُبتكر فيها، وهو إلقاء مُنغم يتيح للغناء التعبير عن الكلام اليومي وانفعالاته.
اتبع مونتيفيردي موضة الريستاتيف المتواصل، لكنّه أضفى عناصر درامية عميقة وصيغاً لحنية رائعة. وكان في الأربعين حين ألف أورفيوس لبلاط مونتاوا. يبدو البون شاسعاً بينها وبين ما سبقها، خصوصاً على المستوى الموسيقي؛ فوضع افتتاحية أوركسترالية رفيعة على طراز باروكي مُبكر، وفواصل موسيقية تماهت مع التصعيد الدرامي، لينقذ بذلك العنصر الموسيقي الذي حاولت جماعة كاميراتا قتله في المهد.
لم يكن لهذا التطور أيّ صلة بأفكار خارج الموسيقى. فإحياء الدراما اليونانية، ظلّ ما ينشده حتى غلوك وفاغنر. وهو ما تجسده مقولة مونتيفيردي: "يجب أن تكون الكلمة سيدة الموسيقى لا خادمتها". استجابت الأوبرا لحركة تطور تاريخية. مع هذا، كانت تتجاذبها، مثل بقية الفنون الأوروبية، توجهات حداثية، وأخرى كلاسيكية.
كانت الفنون، مثل الموسيقى والعمارة، تشهد عودة كلاسيكية. وعبر دومينيكو مازوكي عن تشبع بالريستاتيف، أو ما وصفه في مقدمة أوبراه "سلسلة أدونيس" عام 1626 بـ "ملال الريستاتيف". وظهر طراز جديد يُعرف بالريستاتيف الجاف (البارلاندو)، وهو تقليد أسرع للكلام وأقل ميلودية.
في فلورنسا، كانت الفنون تستلهم من اليونان؛ فبلغت ذروتها نهاية عصر الرينساينس، حيث ولدت هناك أوبرا طفولية. بينما لفينيسيا وجه آخر بدأ باكراً في تصاوير بيليني المُتحيزة للألوان القاتمة، وبلغ الباروك المُبكر ذروته بتصاوير جورجيني وتيتيان وفيرنوزي. لذا، كانت مقصد مونتيفيردي منذ 1613، حيث استغرق سنوات ليعود بأوبرا "عودة أوليس" في 1630. لاحقاً، نبذت الأوبرا الأساطير اليونانية بمواضيع رومانية.
لكن السمة الأبرز كانت في تباين العناصر اللحنية والدرامية، لتشهد الافتتاحية الموسيقية تبدلات إيقاعية، وتغير في السرعات. وتماهت أوبرا مونتيفيردي الأخيرة، "تتويج بوبيا"، رغم أنها ريستاتيف متصل، مع تلك المظاهر الجديدة؛ فسمحت بوجود فقرات اعتراضية، وتباينات لحنية. وعرضت عام 1642 في مسرح الأوبرا العام في فينيسيا الذي افتتح 1637، وكان الأول من نوعه في العالم.
قاد الأوبرا الفينيسية، كافالي، بعد رحيل مونتيفيردي. بهذا، تطورت عدة مضامين درامية، أهمها التباين الواضح بين الريستاتيف والآريات (الأغاني)، إضافة إلى تضمينها ألحاناً شعبية واضحة، وكذلك مضامين هزلية. وظهرت هناك أول أوبرا هزلية، المعروفة باسم "فوما". لكن عنصر التباين انحدر إلى قيم نمطية زادت بتوسيع الفروقات بين الشخصية المحترمة والخسيسة، وتعارض فقرة جادة بأخرى هزلية. كما انحطت الدراما من التعبير الموسيقي إلى الإبهار البصري، فولد الإخراج المُنمق بالعروض الجريئة والحيل السحرية.
كانت الأوبرا الفينيسية جُثة في موطنها، تُبهرجها العروض الفخمة، لكنها شهدت صحوة أخيرة في بلاطي درسدن وميونخ في ألمانيا. فيما ورثت نابولي مركز الأوبرا الإيطالية. ويُعد الصقلي، أليساندرو سكارلاتي، أهم ممثلي الأوبرا النابوليتانية.
وإليه تُنسب الافتتاحية الإيطالية، بحركاتها الثلاث: سريع (ليغرو) وبطيء (آداجيو) ثم سريع. وتُعد تطوراً مهماً في موسيقى الأوبرا. عدا الافتتاحية، لم يكن هناك اهتمام لموسيقى الآلات؛ فأهملت الأوبرا النابوليتانية العروض الفينيسية الفخمة وحيلها المسرحية، مولية عناية بتجسيم الشخصيات من حيث البطولة والخسة.
الاستماع لبعض أوبرات سكارلاتي، مقارنة بأوبرات كافالي أو تشيستي الفينيسية، يوضح التغير في أسلوب الريستاتيف الجاف؛ إذ أصبح جافاً وأسرع وأقل عاطفية. بينما يوضح الجانب الحسي في هذا الأسلوب، لاحقاً، أنساق المبالغة في الرعشات والحواشي الزخرفية التي تتيح للمغنين الاستعراض الأكروباتي لأصواتهم، بالغناء المُلعلع. وتقلصت الحركة الدرامية لمصلحة الأغاني. نتج عن ذلك طواشي متغطرسون ومغنيات يفرضن إرادتهم على الجميع، من مديري المسارح إلى المؤلفين.
بعد ثلاثة عقود من ظهور الأوبرا، عرفتها ألمانيا لكن بأسلوب متطفل على الأوبرا الإيطالية، فيما احتاجت فرنسا إلى ثلاثة أرباع قرن لتظهر أول أوبرا كاملة بلغة فرنسية من تأليف كامبير. لكنّ إسبانيا اهتمت بنوع من التمثيلات الغنائية اسمها ثرثويلا، ولم تكن الإنكليزية بكلماتها ذات المقطع الواحد تلائم التعبير الريستاتيفي، فكان الماسك، وهي مسرحيات مُغناة، بديلاً.
في فرنسا، كان الولع بالمنطق سبباً في ظهور أوبرا محتشمة من حيث العاطفة والتعبير الدرامي. وكان الفرنسيون يقدسون لغتهم بنبرها الموزون وتلوينها الصوتي، حداً لم يسمح بإخضاعها إلى الحركة الدرامية.
وتدين الأوبرا الفرنسية بعناصرها المُكتملة لموسيقي فرنسي من أصل إيطالي، هو جان باتيست لولي. عمل لولي كموسيقي لبلاط لويس الرابع عشر، وهناك نسج بموهبته وذكائه ألحاناً بما يلائم الذوق الفرنسي. واشتق افتتاحية فرنسية تُنسب له مغايرة للإيطالية، وتتكون من ثلاث حركات؛ تبدأ بحركة بطيئة، تتبعها حركة أسرع بأسلوب يسمى فوغاتو، وتختمها حركة على سرعة الأولى. ولعل التلوين الأوركسترالي الفخم والرشيق، أبرز سمة طورها لولي في موسيقى الأوبرا، فأعاد لها ما كان مفقوداً في مهدها الإيطالي.
ونسج الريستاتيف بمصاحبة هارمونية أوركسترالية، بينما بدأ الريستاتيف بمصاحبة تُعرف بالباص المُتصل، تطورت إلى هارمونية ثلاثية بمصاحبة هاربسكورد وباص. وطعمها بفقرات مُبتكرة من الرقصات؛ الموتيت على سبيل المثال. ويتضح من أوبراته الست عشرة، أسلوبها الفرنسي المتحفظ المنسوج بزركشة باروكية منسقة، تلائم ذائقة البلاط. وهي أساليب أفضت إلى فن الركوكو الرشيق الذي سيسود أوروبا لاحقاً.
هكذا، اكتملت عناصر كلاسيكية متفرقة للأوبرا، مهدت للإصلاح الذي قاده الألماني كريستوفر غلوك. مع هذا، ظلت الأوبرا النابوليتانية السائدة أوروبياً، فاتبع أسلوبها هاندل، وقدم للإنكليز ما لا يقل عن 46 أوبرا لغتها إيطالية. واقتفى غلوك هذا الأسلوب في بلاطات فيينا ولندن وكوبنهاغن.
بعد قرن ونصف تماماً من ظهور أوبرا أورفيوس لمونتيفيردي، ستظهر أول أوبرا إصلاحية لغلوك بنفس الموضوع، هي أورفيوس ويوريديتشي. سيعود غلوك عام 1762، لنفس موضوع الأسطورة اليونانية. لكنه سيمنح يوريديتشي دوراً رئيسياً خلافاً لدورها الهامشي عند سلفه الإيطالي. ولم تمثّل أوبرا أورفيوس ويرويديتشي لغلوك عهداً جديداً أبعده عن النموذج النابوليتاني وحسب، إنما ما يُعرف بإصلاح الأوبرا الأوروبية. فتقاطعت سمات مونتيفيردي التعبيرية بتصرفات لولي الرشيقة وتعميقه الأوركسترالي، في أسلوب يحمل نكهة غلوك.
كان القوة المحركة لهذا التوجه الإصلاحي كاتب نصوص غلوك الشعرية، الإيطالي، رانييري دي كالزابيغي. ويمكن تحديد ذلك في سمات رئيسية، مثل تقليم الحواشي الغنائية الفضفاضة، لمصلحة تعميق طابع الشخصيات وانفعالاتها. فأورفيوس غلوك استبعدت الحُليات السطحية والترجيعات، وكل اختلال فائض تمارسه رعشات الصوت وتلويناته. ولم تعد الآريات مشغولة بتكنيك فارغ يستعرض فيه المغنون أصواتا مُلعلعة ومُتريثة.
وقتها، بلغت الأوبرا ذروة التزاوج بين الموسيقى والدراما، فكل نوتة هارمونية أو غنائية أرادها غلوك لا تفيض عن المغزى الدرامي. ومهما خفقت الآريات بألحان جميلة، لن تشذ عن حركة المسرح. والأهم، هو التكثيف الهارموني والأوركسترالي الذي عمق التعبير. وكانت نهاية أورفيوس القاتمة، تجسيداً لروح عميقة بالظلال الداكنة، ولا تماثل تعبيرها البليغ سوى لوحات غويا.
على صعيد آخر، لا يمكن إغفال أن الغالبية العظمى لأعمال الأوبرا استندت لنصوص شعرية ضعيفة. لكنها، في المقابل، كانت تسعى إلى تطوير الحبكة الدرامية. ولعل الاعتماد على صيغ شعرية بسيطة، انساق بعضها لتعبيرات مُبتذلة، ساهم في طلاقة اللحن الموسيقي وانبساطه.
وبعد أن هيمنت أوبرات لولي على البلاط الفرنسي مئة عام، أزاحتها أعمال غلوك الفرنسية. لاحقاً، في البلاط الفرنسي، سيعيد غلوك تقديم أوبرا أورفيوس ويورديتشي بالفرنسية. لكن باعتماد مغني تينور لدور أورفيوس، بينما في النسخة الإيطالية أداه مغن من الطواشي على طبقة ميزو سوبرانو، وهي الطبقة النسائية المقابلة لطبقة التينور الرجولية.
ويمكن للأوبرا أن تحمل في مغزاها إصلاحاً أخلاقياً، لعله لم يكن غرض غلوك، ولا نعرف دوافعه: هل كانت من أجل التعبير الدرامي؟ أو أنه خاضع لذائقة البلاط في باريس، خلافاً لما هو في فيينا. ذلك العُرف غير الإنساني الذي التصق بالأوبرا والغناء، ستنبذه أوروبا إلى الأبد في القرن التاسع عشر.
عندما ماتت محبوبته يوريديتشي، اقتحم أورفيوس بقيثارته وغنائه الجميل العالم السفلي لينقذها. وسُمح له باصطحابها على شرط عدم الالتفات لها طوال بقائهما هناك. لكنها اعتقدت ذلك جفاء، فاتهمته بعدم الحُب وناجته، وظل يقاوم رغبة تتفاقم في صدره بالنظر إليها. وعندما بلغ بوابة العالم السُفلي، حيث تنتظرهما خطوة لعبوره، عيل صبره، فالتفت إليها وصدحت صرخة فاجعة. مع هذا، سينقذ أورفيوس الأوبرا مرتين؛ من مونتيفيردي إلى غلوك.