منصة أفلامنا... كأن تلك الأيام كانت مجرد وهم

29 يونيو 2023
يتناول "قطعتان من الذاكرة" الواقع السوري قبل الحرب وبعدها (عبد المنعم عيسى/فرانس برس)
+ الخط -

تقدم منصة أفلامنا، كلّ فترة، مسابقة للأفلام القصيرة العربية، يتنوع عنوانها ومحتواها، تهدف إلى تشجيع عاملي وعاملات السينما العربية الجدد، ودعم أفلامهم. منصة أفلامنا انطلقت عام 2020 بدعم من جمعية "بيروت دي سي"، بهدف مشاركة أفلام عربية معاصرة مع الشارع العربي وكل العالم. تساعد "بيروت دي سي" المخرجين المستقلين والطلاب على جمع التمويل لإنتاج أعمالهم. كان انطلاق المنصة بتأثير مباشر من جائحة كورونا، التي جعلت النشاطات الاجتماعية والثقافية بعيدة المنال، ما أدى إلى بروز حاجة إلى ابتكار مكان بديل للنشاطات الثقافية، فكان انطلاق "أفلامنا" كبديل من صالات السينما. أخيراً، أطلقت "أفلامنا" مسابقة الفيلم القصير العربي الجديدة بعنوان "أصوات مخفوتة"، شاركت فيها 10 أفلام عربية قصيرة، وانتهت المسابقة، التي كان بإمكان المشاهدين التصويت فيها عبر الإنترنت، يوم 31 مايو/ أيار الماضي.
تنوعت الأفلام المقدمة ضمن المسابقة؛ إذ شارك فيها مخرجون مبتدئون، قدّم بعضهم أفلام تخرّجهم، وآخرون قدموا أفلامهم الأولى. جاءت الأعمال المشاركة من مصر ولبنان وسورية والكويت.
لعل أبرز سمة حضرت في المسابقة هذا العام، هي الأفلام التي تناولت الأرشيف، بشكل أدق الفيديو والصور المؤرشفة، كما لو أنها حالة رفض للحاضر وتشبث بالماضي، إذ ارتكز فيلمان من الأفلام المعروضة بشكل أساسي على الأرشيف المصور من التسعينيات، وهما فيلم "قطعتان من الذاكرة" لداليا الهنداوي، وفيلم "شيء بغيض جداً" لأحمد الخليلي. 
يندرج الفيلمان تحت تصنيف الوثائقي. تقدم الهنداوي فيلمها "قطعتان من الذاكرة" (12 دقيقة) عبر مقاطع أرشيفية ذاتية من رحلات وجلسات عائلية من تسعينيات القرن الماضي. مشاهد عائلية حميمة تعبّر عن سورية التسعينيات، عن عائلة متوسطة في درعا، عن الأطفال واللعب، عن الجلسات الأسرية، عن السهر والفرح، عن وجبات الطعام المشتركة، وعن العيد وفرحته. إلى جانب هذه اللقطات، وبواسطة تعليق صوتي، تجري المخرجة مقابلة مع والدتها، تحكي فيها عن حال العلاقات العائلية اليوم بعد الثورة السورية بأحد عشر عاماً. هذا التاريخ الفاصل الذي أدى إلى انهيار تلك الصلات واللحظات التي بقي منها الذاكرة والصور الأرشيفية ومقاطع الـ VHS. صوت الأم وتعقيبها على قطع العلاقات بفعل اختلاف التوجهات السياسية لكل فرد من العائلة، إلى جانب المقاطع الحميمية، خلق تغريباً للفيلم؛ تغريب يعكس أثر الحرب في سورية على أسرة صغيرة، على البنية الأصغر في المجتمع، إذ تحللت الأسر العادية، أو الطبقة الوسطى التي نالها أكبر تأثير فعلي مما جرى في سورية بسبب هشاشتها. 
تفكك الهنداوي دهاليز هذه الطبقة الهشة بكشفها صورة ماضي عائلتها "السعيدة"، مع تعليق صوتي على الحاضر المملوء بالعداوة، وكأن تلك الأيام كانت مجرد وهم. وهذا من الأسئلة التي قد يطرحها الفيلم: هل ماضي سورية كان وهماً والحقيقة تفجرت مع الثورة؟ حقيقة مطامع ورغبات كلّ فرد هشّم جسد الأسر المتوسطة المزعزعة. وهذه الأسر التي قامت على أساس التعليم والتوظيف في الدولة، أغلب أهلها هم من موظفي القطاع العام الحاصلين على التعليم الجامعي، والذين كان أبناؤهم في عمر الشباب عند بداية الثورة، وهي الأسر التي هاجر أغلبها إلى الخارج هرباً وسعياً لحياة أفضل.
في نهاية الفيلم، تقول الأم إنها تحلم بلقاء أخوتها رغم الجفاء؛ فتارة تحلم بأنها تركض لعناقهم، كما كانت الحياة قبل، وتارة أخرى تحلم بأنهم لا يريدون العناق، لتقول بشكل قطعي إنها اليوم لا يمكنها مسامحتهم، بينما تعقب داليا الهنداوي (الأصغر سناً)، بأنها ستركض لعناق خالها عند رؤيته، وكأن الجيل الأصغر يتعامل بآليات جديدة مختلفة عن الذي سبقه، وكأن الثورة ولحظة الانفجار أثرت بالجيلين بشكل مختلف.
أما فيلم "شيء بغيض جداً"، فهو كما السابق، وثائقي أيضاً، للمخرج المصري أحمد الخليلي. تناول الأخير قصص ثلاث سيدات بفيلم طوله 15 دقيقة، تسرد خلاله السيدات الثلاث، التي فرغ لكل واحدة منهن مقطع من الفيلم، مخاوفهن، بواسطة سؤال مفتاحي يسأله الخليلي، وهو: "ما هو أكثر شيء يخيفك؟". لجأ الخليلي، كما الهنداوي، إلى استخدام صور الأرشيف في الجزأين الأول والثالث من الفيلم، أما الجزء الثاني، فاكتفى باسكتشات مرسومة إلى جانب السرد بواسطة Voice Over للسيدات اللواتي يسردن مخاوفهن.

تبدو المقاطع الثلاثة متزامنة كرحلة في عالم سيدات مصر، أن تكوني امرأة في مصر يعني أن تعاني من مخاوف. تتنوع أعمار السيدات لتنقسم إلى ثلاثة مراحل، فيبدأ الخليلي فيلمه مع الأم بمشاهد أرشيفية عن عرس في نهاية الثمانينيات؛ أم تنظر للحاضر اليوم بنظرة سوداوية، تخشى أن يعيش أبناؤها أياماً أسوأ مما عاشته، فهي غير متفائلة أبداً، وتتحدث عن الجهل المنتشر اليوم، وتسرد مخاوفها بشكل متسلسل: "أخشى التكلم، أخشى الجدل، أخشى الجهل، أخشى الشارع والتغيير"، وكأن كلّ شيء يتغير وتتزايد وتيرة هذا التغير. تشعر الأم أن هذا الشارع عدوها، وأن الزمن يحاربها؛ فكل شيء يتغير ويستحيل عدواً، لا شيء كما كان من قبل. تحول الأم مخاوفها لتوجهها على أبنائها اليوم، وكأن الحاضر وحش يتربص أمام هذا الجيل.
يفتتح الخليلي كل مقطع من فيلمه باقتباس، فخصص لهذا المقطع اقتباساً من رواية "أقفاص فارغة" للكاتبة فاطمة قنديل، ليركز بالاقتباس على هاجس "أخشى أن أصير قولاً مأثوراً"، وهذا ما يقاربه من قول الأم؛ فهي، كما تقول، صارت تخشى الدنيا أكثر من الموت، وتخشى أن تبقى كذاكرة فقط بتعليماتها وتحذيراتها وسردها للماضي.

في القسم الثاني، ينتقل الخليلي لفتاة في عمر الثلاثين في مرحلة الانتقال الأصعب في حياة أيّ إنسان، ويفتتح المقطع باقتباس من الكاتبة المسرحية البريطانية سارة كين، من مسرحية "ذهان" التي كتبتها قبل أن تقدم على الانتحار: "أنا حزينة، أنا فشل ذريع، أنا مذنبة، أنا سمينة، لا أستطيع ممارسة الحب، أرغب في قتل نفسي"، ليترك بعدها المساحة لتسرد الفتاة الثانية هواجسها ومخاوفها بالتزامن مع اسكتشات للرسامة نسرين عبد السلام تحاكي المسرود. لغة الفتاة أقرب إلى سرد المذكرات اليومية، أو طريقة الكتابة في مسرح الحياة اليومية، هذا السرد الشعري لتفاصيل الحياة اليومية بألمها وحزنها، السرد الذي يتخلله وصف وتدفق مشاعر.
الفتاة في عزلة، تخشى الوحدة وتخشى نفسها، لديها شك في ذاتها، في صراع مع جسدها ومع المجتمع، مع المعايير والقيم والاعتبارات السابقة، لديها خوف من أي أذى وألم سيأتيها من أي أحد آخر، تسرد مخاوفها لتصل لتحكي تجربة الانتحار التي قامت بها وفشلت، مع تفاصيل الفتاة الثانية نرى بشكل ملموس الضغط الاجتماعي والعائلي الممارس على فتاة في هذا المجتمع هذا الضغط الذي يجعلها تشكك وتخشى حتى نفسها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

أما في القسم الثالث، فننتقل للفتاة الأصغر سناً، العشرينية، مع مقاطع أرشيفية عن رحلات عائلية للبحر. تتكرر المشاهد مع سرد الفتاة التي تبدو أكثر ثقة، وتحاول أن تكون الأقوى، وكأن تجارب الجيلين الماضيين راسخة في مخيلتها، هي فتاة قررت أن تكون مسيطرة على حياتها حتى تعيش، وهاجسها وخوفها الأكبر هو فقدان هذه السيطرة في لحظة.
رغم محاولة الفتاة الأخيرة العثور على الحلّ للتغلب على هذا العالم القاسي، إلّا أنها تتشارك مع الجيلين السابقين خوف الشارع والزحام. هذا الشارع الذي لا تملكه كنساء، ولا يملكن حتى الآن حقاً فيه.
في الفيلمين، قررت الهنداوي والخليلي استخدام الأرشيف أو الاسكتشات، والتقصّي في الماضي والذاكرة والهروب للسرد، وكأن الحاضر قبيح ومفجع لدرجة لا يستحق العرض. الفيلمان تعاملا مع المقاطع الأرشيفية بحميمية، وكأن الماضي كان أفضل، ولكن في الوقت نفسه، كان هو الذي احتوى لحظة التمهيد لهذا الحاضر الذي نهرب منه اليوم.

المساهمون