"ملايين غانثر"... كم كلباً نحتاج كي تعمّ السعادة؟

13 فبراير 2023
هناك من يشير إلى أن غانثر هو مجموعة من الكلاب وليس كلباً واحداً (نتفليكس)
+ الخط -

بدأت منصة نتفليكس ببث المسلسل الوثائقي "ملايين غانثر" (Gunther's Millions). عمل ليس من السهل تلخيص محتواه بجملة واحدة، فأن نقول إنه وثائقي عن كلب ورث ملايين طائلة، مكنته من شراء منزل مادونا السابق في ميامي واليخوت، فلن نفيه وغانثر حقهما. سنحاول الإحاطة بالمسلسل من عدة زوايا، أي سنقرأه كتجربة ما بعد حداثية، منفتحة على التأويلات والقطاعات، خصوصاً أن كل حلقة من المسلسل تكشف عن جانب جديد من الحكاية، يتركنا نتأمل ونفكر ونتساءل: هل ما نراه حقيقة؟ أم نوع من أنواع فن الأداء؟

يكشف المسلسل عن أن صاحب الفكرة، أي توريث الأموال لغانثر، الإيطالي موريتيزو ميان، رجل مصاب باكتئاب شديد، وربما حاول الانتحار، وابتدع قصة غانثر الكلب وصاحبته الكونتيسة، كمحاولة لخلق ذات بديلة عن نفسه، أي الكلب كقرين مستنسخ للإنسان يعيش كل ظروف السعادة، ولا همّ لهما، أي غانثر أو موريتيزو، سوى أن يكون من حولهما بصحة جيدة، في محاولة لفهم الشروط المحيطة بالفرد وقدرتها على التأثير به نفسياً. يمكن اعتبار فريق غانثر، المؤلف من رجال وسيمين ونساء حسناوات، كتجربة علميّة ما بعد حداثية، أي عوض عن أن تتم التجربة داخل المخبر، تم توظيف ما يشبه صيغة تلفزيون الواقع للبحث في موضوع شديد الغموض، ألا وهو السعادة. وعوضاً عن اتباع منهج علمي واضح، اتبع منهج استعراضيّ أدائي يجتمع فيه الأفراد حول كلب يمتلك ملايين الدولارات، يقتحمون عالم الملذات، بينما يقوم "العلماء"، ومن ضمنهم موريتزيو، بمراقبة ما يحصل.

اللافت أكثر أن "القياس" حاضر في هذه التجربة الفريدة. اخترعت أداة لا نعرف مدى دقتها، يرتديها الأفراد "السعداء" من أجل ضبط مستويات السعادة. وبدلاً من هرم ماسلو الشهير في التحليل النفسي، لدينا دائرة غانثر الضوئيّة، القائمة على الجنس والمرح والرياضة والمشاهير، بوصفها مجموعة قوى تساهم في خلق السعادة الأبدية.

يتضح خلال المسلسل، أن موريتزيو ابتدع قصة الكلب وصاحبته الكونتيسة وكل ما يحيط بهما من تاريخ كي يتهرب ووالدته من دفع الضرائب على الثورة التي امتلكاها. بالتالي، كل حكاية غانثر، والتجربة العلمية المزعومة، ليست إلا غطاء لعملية احتيال من نوع ما، يتمتع بها موريتزيو بصحبة كلبه في عالم الأغنياء والموضة، مجرباً كل ما يحلو له، من دون أن تمس السلطات أمواله. تتبع الأموال هو ما أثار الشكوك حول موريتزيو، وهو بالضبط ما دفعه إلى اختلاق حكاية الكونتيسة، ناهيك عن أنه من يتصرف بوديعة غانثر المالية، ويقرر ما هو الأنسب له، أي هو الوصيّ على الكلب، في ذات الوقت يتمتع بكل ثروته التي تهدف حرفياً إلى البحث عن سعادة غانثر.

هناك ما يثير الريبة حين نتأمل أوجه "مجموعة" غانثر عندما يتحدث أفرادها. هناك نوع من عدم التصديق، أو التصديق المفرط. الدور الذي يلعبه كل واحد منهم، كعينة مثالية عن البشر بهدف للاستعراض والدراسة، يتركهم كما يتركنا في موضع التشكيك، فهل هو الحظّ الذي قادهم إلى أن يكونوا في عالم غانثر؟ أم هم عينات تتم دراستها، ولا يمانعون أن يحدقّ بهم غانثر الكلب وصاحبه لأخذ الملاحظات؟ لا يمكن أن نتيقن بدقّة، خصوصاً أن كل شخص في المسلسل يلعب دورين، سواء كنا نتحدث عن زير النساء، أو المسؤول عن توظيف أفراد المجموعة، أو موريتزيو نفسه. هناك الدور العلني، المتمثل بذلك السعيد، والمرافق للكلب، وهناك الدور الآخر، الأكثر سريّة، والمليء بالشك، وأحياناً التوجس من نهاية هذه "الخدعة".

نجوم وفن
التحديثات الحية

لا نعلم إن كان باستطاعتنا الحد من القراءات التي يمكن أن نقدمها للمسلسل. هناك حكايات عن انتهاك حقوق الحيوان، وحقيقة أن غانثر، ليس كلباً واحداً، بل مجموعة من الكلاب المستنسخة، ناهيك عن تردد إشاعات عن تجربة علميّة تهدف إلى توليد كلب وإنسان. يبدو المسلسل إن أردنا التحذلق أشبه بتلك الصور التي كلما نظرنا إليها من زاوية، يختلف ما نراه. ربما غانثر كلب، أو ربما شخصية فصاميّة، أو نسخة من كلب ما، كل هذه الاحتمالات قائمة. موريتزيو الذي للمصادفة يشبه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر هو الشخصية الأكثر إثارةً للاهتمام، ليس بسبب كيفية صرفه لنقود غانثر لشراء نوادي كرة القدم، وتعيين ممثلات إباحيات رئيسات للنوادي، بل لأنه طوال المسلسل يحاول أن يقنعنا بعكس ما نراه، وأن كل المحيطين بغانثر، جزء من تجربة أسمى، تهدف إلى اكتشاف السعادة بطريقة "علميّة".

وهنا المرعب، فالأمر ليس غريباً عام 2023، بعد أن برز المؤمنون بالأرض المسطحة، وبعد اقتراح بعضهم شرب مبيض الغسيل للشفاء من فيروس كورونا، ولا يستغرب أن يكون شكل "العلم" و"التجربة العلميّة" قائم على أساس قلادة ذات أضواء يضعها رجال ونساء يحبون كلباً يتكفل بمصاريف حياتهم.

يمكن استقراء وصفة للسعادة المعاصرة من المسلسل التي ينفي موريتزيو أن تكون على علاقة مع النازية ونظريات العرق الأسمى. لكن يبدو أن السعيد والسعيدة، ينتميان إلى العرق القوقازي، ذوا قوام حسن، وخصبان جنسيّاً، ولهما قدرة على لفت الانتباه. أدوات تحقيق هذه السعادة هي النقود، ووسائل الإعلام والتحرر الجنسي، وكسر مفهوم الأسرة النوويّة.

اللافت أن موريتزيو نفسه ليس جزءاً من التجربة، أي هو لا يبحث عن سعادته الذاتيّة، بل يراقب ويتحكم بالشروط التي من المفترض أن تخلق السعادة للأفراد، إلى حد رغبته بإنتاج "جيل" من الأفراد السعيدين، أولئك الذين لا يمتلكون أي مبرّر للاكتئاب أو محاولة الانتحار، ليظهر الكلب هنا كمجاز، بوصفه "وحشاً"، أي لا يخضع للاعتبارات التقليديّة والقانونية والسياسية التي تحكم الأفراد، بالتالي سعادته يمكن إسقاطها على من حوله. وهنا المفارقة، بل السؤال شديد السخريّة: كم كلباً نحتاج كي تعم السعادة على كلّ البشر؟

المساهمون