كانديس بريتز فنانة من جنوب أفريقيا كان من المقرر أن تعرض أحد أهم مشاريعها الفنية في متحف سارلاند في العاصمة الألمانية برلين خلال هذا العام، غير أن المتحف قرر، من دون سابق إنذار، إلغاء معرضها. لم تكلف إدارة المتحف نفسها مشقة التواصل مع الفنانة لإبلاغها بهذا القرار، الذي علمت به، كما تقول، من خلال الصحف. أما سبب إلغاء المعرض، فكان مجرد تدوينة كتبتها بريتز في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على "إنستغرام"، تطالب فيها بوقف إطلاق النار في غزة. في هذه التدوينة، أدانت بريتز "أعمال العنف من كلا الجانبين: حركة حماس وإسرائيل"، وطالبت بـ"العدالة وتحقيق السلام". غير أن هذه "الحيادية" التي اتسمت بها تدوينة كانديس بريتز لم تشفع لها عند متخذي القرار في المتحف، بل طالها اتهام معاداة السامية واليهود. هوجمت بريتز بضراوة في بعض الصحف الألمانية من قبل الكتاب والصحافيين الموالين للاحتلال الإسرائيلي، واتهمت بأنها مؤيدة للإرهاب ومعادية لليهود. ويجب التذكير هنا بأن كانديس بريتز فنانة يهودية، ولدت عام 1972 في جنوب أفريقيا وعايشت فترة الفصل العنصري، وهي تقيم وتعمل حالياً في ألمانيا.
أعربت بريتز عبر صفحتها على "إنستغرام" عن اعتراضها على إلغاء معرضها، معتبرة إياه أمراً غير أخلاقي ومؤشراً خطيراً على تراجع حرية التعبير في ألمانيا. وقالت إن "الديموقراطية تحتّم إعطاء فرصة الدفاع عن النفس لأولئك الذين يجري التعامل معهم كمذنبين قبل إدانتهم أو الحكم عليهم، ولكن يبدو أن المناخ السائد في ألمانيا في الوقت الحاضر لا يسمح بذلك". وصفت بريتز قرار إلغاء المعرض بأنه "أكثر معاداة للسامية من وجهة نظرها، كغيره من القرارات التي تتخذ ضد الفنانين والشعراء والموسيقيين وصانعي المسرح والروائيين في ألمانيا خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة". ورأت أن هذه القرارات "تحركها الحساسية الألمانية تجاه المحرقة، لا الرغبة الصادقة في التضامن مع الشعب اليهودي". إن تاريخ المحرقة، كما قالت بريتز، "يخيّم هنا على الأجواء، وتوزع اتهامات معاداة السامية من دون أدنى تفكير أو دليل على ذلك".
ما حدث لبريتز ليس استثنائياً، فقبل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، ألقت الشرطة الألمانية القبض على مجموعة من الناشطين اليهود المناهضين للصهيونية، بينهم الفنان آدم برومبرغ، وتعاملت معهم بعنف شديد. كانت التهمة رفع لافتات عليها علم فلسطين، خلال تظاهرة صغيرة نظمها عدد من الناشطين اليهود والعرب في ذكرى النكبة خلال مايو/ أيار الماضي. غير أن حالة كانديس بريتز هي الأولى من نوعها التي توجه فيها التهمة لفنان يهودي بالانجياز أو معاداة السامية أو حتى دعم الإرهاب. لا بد من الإشارة هنا إلى أن عمل بريتز الذي كان من المقرر عرضه في برلين لم تكن له أي علاقة من قريب أو بعيد بالعدوان على غزة أو حتى بالسياسة، فهو عمل تركيبي يتكون من تجهيزات وشاشات عرض من إنتاج عام 2017، ويتحدث عن بائعات الهوى في جنوب أفريقيا، ويحمل عنوان TLDR .
في حالة أخرى أكثر تطرفاً، أُجبرت واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية العاملة في برلين، وهي مؤسسة "عيون"، على الإغلاق، بعد أن صوّت مجلس الشيوخ في المدينة على سحب تمويلها، ووجهت الاتهامات لمجلس إدارتها بمعاداة السامية. أما السبب الذي دعا إلى سحب التمويل من هذه المؤسسة الثقافية واتهامها بمعاداة السامية، فهو استضافتها حدثاً لمنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وهي منظمة يهودية تطالب بـ"السلام العادل بين الفلسطينيين وإسرائيل". أدى هذا القرار إلى فقد أكثر من 30 شخصاً لوظائفهم في مؤسسة "عيون"، فالتمويل الذي يبلغ مليون يورو كان من المقرر أن يغطي رواتب الموظفين وإيجار المقر حتى نهاية عام 2025. المجلس الاستشاري لمؤسسة عيون يضم عشرة أعضاء، نصفهم تقريباً من اليهود، وقد رفض هؤلاء جميعاً الاتهامات التي وجهت للمؤسسة.
وأصدرت المؤسسة الثقافية عدة بيانات في ما حصل، وطالبت الحكومة بمراجعة قرارها، من دون جدوى. البيان الأخير الذي أصدرته إدارة المؤسسة على موقعها الإلكتروني كان دعوة لمن يهمه الأمر لتوفير وظائف مناسبة لأفراد المؤسسة وموظفيها الذين أصبحوا بلا عمل.
في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة، كثفت المؤسسات الألمانية سياسة المنع التي تتبعها إزاء الأصوات الداعمة لفلسطين، فقد ألغيت العديد من الأنشطة والمعارض والندوات والتكريمات لفنانين وكتّاب عرب وأجانب. خلال الأشهر القليلة الماضية جرى استهداف وتهديد سبل عيش العديد من الفنانين والعاملين في مجال الفنون، لا لشىء سوى أنهم عبّروا عن تضامنهم مع الفلسطينيين أو طالبوا حتى بوقف إطلاق النار. أُلغي بينالي التصوير الفوتوغرافي الألماني الذي شارك في تنظيمه الفنان شهيد العلم، وهو مصور بارز من بنغلاديش، لأنه اتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في فلسطين. وفي وقت سابق استقال جميع أعضاء لجنة الاختيار لمعرض دوكومنتا لنسخة عام 2027، في أعقاب توجيه الاتهام لأحد أعضاء اللجنة بالانجياز ثم معاداة السامية وهو الشاعر الهندي رانجيت كوسكوت بعد الكشف عن توقيعه على رسالة تقارن بين الصهيونية والقومية الهندوسية.
سياسة المنع والإقصاء التي تتبعها المؤسسات الثقافية الألمانية ضد الأصوات الداعمة لفلسطين أو المطالبة بالعدالة لهم، تعكس ما تعانيه العقلية الألمانية من حساسية مع ماضيها. غير أن كانديس بريتز حذرت من أن هذه السياسات باتت ترسّخ لمناخ إقصائي أكثر تشدداً لا يختلف كثيراً عن الأجواء التي كانت سائدة في ألمانيا خلال الأربعينيات.