مصورو اعتداءات سبتمبر: "شهدنا أفضل ما في الإنسانية وأسوأ ما فيها"

11 سبتمبر 2021
+ الخط -

العالم كلّه قد يتغيّر صباح يوم ثلاثاء مشمس. كيف؟ 19 شخصاً يخطفون أربع طائرات مدنيّة أميركية: اثنتان تضربان البرجين التوأمين في "مركز التجارة العالمي"، في مدينة نيويورك؛ الثالثة تدمّر الواجهة الغربية لمبنى وزارة الدفاع (البنتاغون) خارج العاصمة واشنطن؛ والرابعة تتحطّم في حقلٍ، في ولاية بنسلفانيا. الهجوم على "مركز التجارة العالمي" سيكون الأكثر درامية، إذْ سيقتل أكثر من ألفين و500 شخص، بينهم المئات من طواقم الإنقاذ والإسعاف والإطفاء. سيتفرّج العالم على برجين عملاقين يهبطان على رؤوس الناس، ويخلّفان فراغاً في السماء، لن تسدّه سوى غيوم من الدخان، ستقلب النهار ليلاً.

مَن شهدوا ما حصل صباح الثلاثاء، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، ونجوا، سيقولون إنه الجحيم. وما الجحيم أكثر من أنْ ترى بعينيك بشراً يقفزون من ناطحات السحاب نحو حتفهم المحتم، هرباً من موت محتم آخر؟

ومَن لم يشهد ذلك الجحيم، سيشاهده، عبر آلاف الصُوَر واللقطات، للحدث الذي قيل إنّه "الأكثر توثيقاً في التاريخ". هذا كلّه قبل عصر هواتف "آيفون" ومواقع التواصل الاجتماعي. مُصوّرون استلّوا كاميراتهم، واحتموا بها، لينقلوا المأساة، قبل أنْ تُعلن "الأرض صفر" (Ground zero) مسرح جريمة، ويُمنَع التصوير فيها. سيلقى أحدهم، وهو بيل بيغارت، حتفه. لكنّ صُوَره الأخيرة ستُسترجَع من كاميرته "كانون دي 30"، وستُنشر في أنحاء العالم.

"العربي الجديد" يحاور 5 من هؤلاء المُصوّرين عما شهدوه ذلك اليوم، وما التقطته عدسات كاميراتهم، وتحديداً في مانهاتن السفلى.

ستان هوندا

في 11 سبتمبر 2001، كانت مارسي بوردرز موظّفة في "بنك أوف أميركا"، في الطابق 81 من البرج الشمالي لـ"مركز التجارة العالمي". بعد الهجوم على المبنى، هرعت إلى الدرج، حيث طاردتها غيمة من الغبار والدخان. كلّما كانت تحاول التنفّس، كانت تختنق، وفق ما قالت في مقابلة صحافية، قبل وفاتها عام 2015 عن 42 عاماً، جرّاء إصابتها بسرطان المعدة، علماً أنّها عانت الاكتئاب، وأدمنت العقاقير لفترة، بعد الهجوم. شخص ما رافقها حينها إلى مبنى مجاور. هناك، التقط المُصوّر في وكالة "فرانس برس"، ستان هوندا، صورتها، وأصبحت تُعرف بـ"سيدة الغبار" (Dusty Lady). بوردرز كانت تتحاشى النظر إلى صورتها هذه: "لا أريد الشعور بأنّي ضحية بعد الآن".

مارسي بوردرز (ستان هوندا/ Getty)
أصبحت مارسي بوردرز تُعرف بـ"سيدة الغبار" (ستان هوندا/ Getty)

كان هوندا في منزله حين هاتفه زميلٌ له، وأخبره أنّ طائرة اصطدمت بـ"مركز التجارة العالمي". ظنّ الاثنان أنّ طائرة صغيرة خاصة اصطدمت بالمبنى، وقرّرا الذهاب إلى مانهاتن السفلى لتصوير ما يجري. معظم من كانوا على الأرض، ذلك اليوم، لم تكن لديهم أي فكرة عما حدث، أو ما كان يحدث.

وصل هوندا إلى موقع الهجوم قبل انهيار البرج الأول. يقول لـ"العربي الجديد": "كان سماع انهيار البرجين، ورؤية سحب الدخان والغبار الهائلة، أمراً مخيفاً. ركّزتُ على تصوير الأشخاص وهم يهربون، وكذلك وهم يساعدون بعضهم البعض".

عن صورة مارسي بوردرز، يوضح: "إنّها تنظر إلى الكاميرا. لذلك، يتواصل معها مشاهدو الصورة بالعين. إنّها تضع وجهاً إنسانياً على ما حدث. لا أتذكّر التفكير فيها كثيراً في ذلك الوقت، بخلاف أنّها كانت واحدة من كثيرين طاولتهم المأساة، وصوّرتهم".

غولنارا سامولوفا

صباح ذلك الثلاثاء، كانت المُصوّرة الصحافية لدى وكالة "أسوشييتد برس"، غولنارا سامولوفا، نائمة، حين أيقظتها صفارات الإنذار، فهي تقيم على بُعد بضعة مبانٍ فقط من "مركز التجارة العالمي". أدارت جهاز التلفزيون، وشاهدت أحد البرجين مشتعلاً. حين رأت اصطدام الطائرة الثانية بالبرج الجنوبي، سمعته أيضاً. ارتدت ملابسها على عجل، وألقت لفافات من أفلام التصوير في حقيبتها، ثم اتجهت إلى موقع الهجوم.

حين وصلت، كان البرجان يشتعلان، ولم تكن المنطقة محصّنة بعد. وقفت في زاوية، أمام فندق "ماريوت"، ورأت الجرحى يخلون المبنيين. أدركت حينها أنها تريد التركيز على الأشخاص الذين طاولهم الهجوم، وليس الهجوم نفسه. لكنّها لم ترد التركيز على مَن كانوا يقفزون إلى حتفهم من البرجين، ولا أولئك الذين أصيبوا بشدة؛ "هذا الأمر يتخطّى الحدّ بالنسبة إليّ"، تقول سامولوفا لـ"العربي الجديد".

بدأت سامولوفا التقاط الصُور، ثم نظرت إلى الأعلى، فرأت البرج الجنوبي ينهار عبر عدستها. التقطت صورة، ثم بدأت تركض. احتمت بسيارة. لكنّ الأرض والسيارة بدأتا بالاهتزاز، ثم هبطت عليها غيمة ثقيلة من الركام والغبار. تقول: "تحوّل كل ما حولي إلى الأسود. لم أستطع أنْ أرى أو أسمع. حسبت أنّي دُفنت حية. غطى الغبار عينيّ وأنفي وفمي، وبدأت ألهث. رفعت كنزتي لأغطّي وجهي. أحد ما سألني إن كنت بخير. قلت لا. كنت مصابة بالدوار، وأنزف. رأيت أضواء السيارة تومض، وأدركت أين أنا. التقطت كاميرتي، وبدأت بالتقاط الصور. بالكاميرا في يدي، كنت مراقبة منفصلة عمّا حولي. الكثير من التصوير يشبه ذاكرة العضلات. أنت تتعلّم التصرّف وفقاً للفطرة، فتتحرك قبل أن يكون لديك الوقت للتفكير في الأمر. أشعر أنّ كاميرتي أنقذتني من الجنون".

ضمن الصور التي التقطتها يومها سامولوفا، فازت واحدة بالجائزة الأولى في مسابقة "وورلد برس فوتو". الصورة تبيّن رجالاً ونساءً غطاهم الغبار وبقايا الركام، لكنّهم يساندون بعضهم البعض، ويلتفّون حول بعضهم البعض، كأنّهم آخر البشر على الأرض. الصورة ساعدتها على الشفاء من الصدمة التي عانت منها ذلك اليوم، وجعلتها تدرك "أنّ الوجود لم يكن من أجل لا شيء". تؤكّد: "غيّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حياتي. كانت بداية رحلة لاكتشاف ما كنت موجودة هنا لفعله".

طوال عام كامل، أشرفت سامولوفا على مشروع خاص في "أسوشييتد برس"، وأمضت أيامها لا تنظر إلا إلى صُوَر وثّقت الهجوم: "كان الأمر مرعباً، ويستحيل على أحد فهمه ما لم يكن موجوداً هناك يومها. بالنسبة إليّ، وإلى كثيرين آخرين، لم تنته أحداث 11 سبتمبر في ذلك اليوم. نحن نعيش معها منذ 20 عاماً".

لم تستطع المُصوّرة الاستمرار في العيش قرب موقع الهجوم، فغيّرت مكان إقامتها، وتركت عملها في "أسوشييتد برس" بعد الاعتداءات بعام. احتاجت وقتاً طويلاً قبل أنْ تتمكّن من التقاط الصُوَر مجدداً. هذه المرة، ابتعدت عن التصوير الصحافي، وأسّست مشروعاً لتصوير حفلات الزفاف بأسلوب وثائقي، ثم تخلّت عنه، وأطلقت برنامج "مصوّرات الشارع".

ماذا عن نيويورك، حيث عاشت سامولوفا، المولودة في روسيا، منذ وصولها إلى الولايات المتحدة عام 1992؟ تؤكّد المُصوّرة الصحافية: "نحن لا نتخلّى عن المدينة، سواء بسبب أحداث 11 سبتمبر، أو كوفيد-19. لكننا نتكيّف".

أنتوني كوهيا

حين كان أنتوني كوهيا متّجهاً نحو مقر عمله ذلك اليوم، كان يعلم فقط أنّ "طائرة صغيرة" ضربت أحد البرجين. في رحلته هذه، علق لنحو 45 دقيقة في مترو الأنفاق، على بُعد مربّعات قليلة مما أصبح يُعرف لاحقاً بـ"الأرض صفر". حين وصل والركّاب الآخرون، نصحهم المحصّل بالصعود إلى الشارع، والتوجّه إلى منازلهم.

وصل كوهيا إلى الشارع، والتفت حوله بسرعة، إذْ كان معتاداً على استخدام البرجين التوأمين كبوصلة، كلّما خرج من مترو الأنفاق. يقول لـ"العربي الجديد": "لأنّي من نيويورك، لم أستطع حتّى أنْ أتخيّل أنّ البرجين سقطا. تلفتُّ حولي، ولم أستطع رؤيتهما. كانا قد سقطا بالفعل حين وصلت".

9/11 (أنتوني كوهيا/ Getty)
حاول كوهيا التواصل مع عنصر الإطفاء لاحقاً، لكن الأخير لم يكن مهتماً (أنتوني كوهيا/ Getty)

هل كان خائفاً؟ "كلا"، يقول كوهيا، "إذْ لم أكن قادراً على جمع شتات أفكاري حينها، والتفكير في ما حصل. كان اهتمامي منصبّاً على تغطية الحدث، على حدّ فهمي له حينها". لكنْ، بعدما استوعب حجم ما حصل، كانت صدمته كبيرة، وسيطر عليه الإنكار والحزن لوقت طويل. يقول: "كان عليّ التركيز على العمل لأتخطّى تلك الفترة. لم أستطع العودة إلى الموقع نفسه إلا بعد مرور 6 أشهر على الهجوم. كان عليّ إجبار نفسي على فعل ذلك، لأتخطّى ما كنتُ أحسّ به، والضغط الذي كنت أرزح تحته".

أريستيد إيكونوموبولس

في الليلة التي سبقت 11 سبتمبر 2001، أطال المصوّر الصحافي أريستيد إيكونوموبولس السهر، فانزعج حين هاتفته والدته عند الساعة 8:22، خاصة أنّ موعد عمله يومها لن يبدأ قبل الثالثة من بعد الظهر. بعد انتهاء الاتصال بنصف ساعة، هاتفه محرّر الصحيفة حيث يعمل، ليخبره عن اصطدام طائرة بأحد البرجين.

بدأ بالركض سريعاً، وكان على متن عبّارة، حين سمع الطائرة الثانية تصطدم بالبرج الثاني. يقول إيكونوموبولس لـ"العربي الجديد": "من حسن حظي أنّي لم أشهد سقوط أي شخص من البرج، ولم أسمع صوت اصطدامه بالأرض. عند تأدية مثل هذا العمل، يتعلّم المرء إطفاء مشاعره، ليركّز على واجباته، تماماً كرجل الإطفاء أو الشرطي".

يتذكّر انهيار البرج الثاني، والركض في الشارع، قبل دخوله مبنى تجمّع فيه أشخاص، وبينهم امرأة تصرخ: "يا إلهي، نحن على قيد الحياة. يا إلهي، نحن على قيد الحياة". حمل إيكونوموبولس كاميرته، وصوّرها. سألته: "لماذا تصوّر ذلك"؟ ردّ عليها: "لأنْ علينا ألا ننسى". في المبنى نفسه، نزع رجل يهودي، كان يشارك في الإسعافات الأولية للمصابين، طاقيته (الكيباه)، واستعملها كفلتر، ونظر إلى إيكونوموبولس قائلاً: "يبدو أنّ هذه الكيباه تنفع لشيء ما". يقول المُصوّر: "تعليقه رسم ابتسامة على وجهي حينها. فهذا الرجل يلقي دعابة وسط هذه الظروف. لكنّ هذا فعلاً ما أبقانا على قيد الحياة. هذا ما لم يقطعنا عن إنسانيتنا".

خرج إيكونوموبولوس، وتابع التقاط الصُوَر. مرّ على صيدلية، واشترى قطرة لعينيه وكمامات. عند انهيار البرج الثاني، كاد يفقد حياته، لولا أنّه احتمى ومصوّر آخر بباص. استجمع أنفاسه، ومُجدّداً تابع التقاط الصُوَر. يقول: "المشاعر كانت معطّلة في تلك اللحظات. كان يوماً تاريخياً. شهدنا حينها أفضل ما في الإنسانية، وأيضاً أسوأ ما فيها".

يسألني عن انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، ويخبرني أنّه يفكّر بما حصل كثيراً، لأنّ ما عاينه عام 2001، علّمه فعلاً معنى التعاطف. يعلّق: "ما حدث مأساوي. تدمّرت حيوات، وتغيّرت إلى الأبد".

الآن، بعد عشرين عاماً على الهجوم، لا يزال يزعجه أنّه كان فظّاً مع والدته صباح ذلك اليوم. يقول: "كان يُمكن أنْ تكون تلك المرة الأخيرة التي أتحدّث فيها معها". يضيف: "في الذكرى الأولى للهجوم، هاتفتها عند الثامنة و22 دقيقة صباحاً، وقلت لها إنّي أحبّها".

ميشيل سيتبون

في الليلة التي سبقت أحداث 11 سبتمبر 2001، وصل المُصوّر الفرنسي ميشيل سيتبون من باريس إلى نيويورك. لم يستطع النوم جيداً بعد رحلته، بسبب فارق التوقيت. لم يهتمّ كثيراً حين تلقّى اتصالاً من صديق، يخبره عن نشوب حريق في أحد البرجين. الحريق ليس إلا خبراً يومياً في صحيفة محلية، وسيتبون (69 عاماً) مُصوّر حروب، أمضى سنوات في تغطية أحداث عالمية، بينها الثورة الإسلامية في إيران، واليمن في الثمانينيات، والحرب الأهلية في إل سلفادور، ومجزرتي تل الزعتر والنبعة في لبنان، وغيرها.

لكنّ الطقس كان مُشمساً، والنوم لا يزال يجافيه، فقرّر المشي في المدينة، مُتّجهاً نحو "مركز التجارة العالمي". استقلّ باصاً، وحين اقترب من موقع الهجوم، بدأ يرى الناس يفرّون، والنيران تهبّ من البرجين. لكنْ، حتّى في تلك اللحظة، لم يكن يعلم فعلاً ما حصل. لم يستطع الحصول على أي معلومة.

اتّجه صعوداً نحو البرجين. اختبأ خلف سيارة تابعة لعناصر الإطفاء، قبل أنْ يقترب منه أحدهم، ويطلب منه الابتعاد، مُحذّراً: "البرج سيتهاوى". بعد ثوانٍ، انهار البرج.

9/11 (ميشيل سيتبون/ Getty)
نيويورك يومها كانت كحيوان بري مجروح (ميشيل سيتبون/ Getty)

الخوف لم يكن ما شعر به سيتبون حينها، بل المفاجأة. مع أنّه كان مُصوّر حروب، لكنّه لا ينسى الفوضى التي شهدها ذلك اليوم: جموع الفارين من البرجين، والراكضين في الشارع، والدخان الذي افترس الأجواء. هدفه الأول حينها كان التقاط الصُوَر، والاقتراب أكثر ما يمكن من موقع الهجوم، متسلّحاً بكاميرته التي كانت "كأنّها حاميته"، وفق ما يقول لـ"العربي الجديد".

يضيف: "لن أنسى ما حصل. سأتذكّره طوال حياتي. عملت عشرين عاماً على قصص عدّة في نيويورك. لكنّ علاقتي بها تغيّرت بعد الهجوم، إذْ أصبحت فجأة مدينة شديدة الإنسانية. نيويورك يومها كانت كحيوان بري مجروح".

المساهمون