حكايات سينمائية عن "11 سبتمبر 2001": للمال "قيمة" أم للفقدان؟

06 سبتمبر 2021
سارة كولانجلو في مهرجان ساندانس 2020 تُقدِّم "قيمة" (مايكل كوفاك/ Getty)
+ الخط -

يمرّ وقتٌ قليلٌ على الاعتداء الإرهابي على الولايات المتحدّة الأميركية، في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، فتُنشئ السلطات الأميركية "صندوق تعويض ضحايا 11 سبتمبر"، ويُكلَّف المحامي كينيث فاينبيرغ (1945) إدارته، لتخفيف عبء تحمّل مسؤولية التعويضات عن كاهل شركات الطيران. فاينبيرغ، المُقيم في واشنطن دي سي، حيث يعمل ويُدرِّس، يخوض تجربةً مريرة، تحثّه على معاينة أحوالٍ غير عارفٍ بها، وغير مهتمّ بأناسها ومصائبهم، وغير مكترثٍ بتأثيراتها على أقارب الضحايا. فاينبيرغ نفسه يؤلِّف كتاباً بعنوان "ما قيمة الحياة؟ الجهد غير المسبوق لتعويض ضحايا 11 سبتمبر" (2006)، الذي يُصبح ركيزة أساسية لـ "قيمة" (2020، 118 دقيقة، "نتفليكس")، للأميركية سارة كولانجلو.

القيمة، بحسب فاينبيرغ (مايكل كيتون)، تتجاوز معنى المال إلى مبدأ أنّ لكلّ فردٍ قيمة مالية. عندما يُتوفّى المرء، لأي سببٍ، يسأل فاينبيرغ أولاً وأساساً: ما قيمته المالية، كتحديدٍ لتعويضٍ مالي فقط. أحد المشاهد الأولى يوضح تفكير المحامي، إذْ يُفسِّر هذا في درسٍ جامعي لطلّاب يريدون أنْ يُصبحوا محامين. مشهدٌ آخر، في بدايات "قيمة" (Worth، لها تفسيرات عربية عدّة أيضاً): سيدة تنظر إلى أحدهم، غير الظاهر أمام الكاميرا، سائلةً: "أتريد معلومات إضافية؟". لا إجابة. أساساً، هي غير مُنتظرةٍ إجابة، فتُكمِل: "سأقول هذا: أنا غاضبةٌ. أنا غاضبةٌ من الله، وغاضبةٌ من دولتي، أيضاً، لأنّها سمحت بحدوث هذا". تتنهّد قليلاً، وتُضيف: "ابني الجميل احترق وهو حَيّ بسببهم. ليس لدينا جسدٌ حتّى. إذا أخذ شخصٌ ما طفلك وفجّره... لم يكن لديه حتى ظفر. كيف تُكمِل من هناك؟ كيف تحسب ذلك (بالمال)".

العنوان الفرنسي للفيلم نفسه، ?A Quel Prix، يطرح سؤالاً مُكمِّلاً للتنازع العميق بين "القيمة" المالية والفقدان. الأولى يُعنى بها مسؤولو التعويضات، فالأفراد، بالنسبة إليهم، يُعوَّضون بالمال المدفوع إلى أقارب لهم. الثاني مختصّ بأهلٍ وأقارب ومعارف وأصدقاء. الفقدان لا يُعوَّض. الأخلاق أيضاً. الدولة الأميركية "تسمح" باعتداء "الثلاثاء الأسود" (11 سبتمبر/ أيلول 2001)، ومحامون متواطئون مع جهات نافذة في الإدارة السياسية يرون في صندوقٍ للتعويضات إزالة مشكلةٍ، فيرتاح الجميع.

منذ بداية "قيمة"، يتوضّح تماماً المسار الدرامي للسرد: هناك صراع بين مفهومين، يتناقض أحدهما كلّياً مع الآخر. رغم هذا، مسار العمل في "صندوق تعويض ضحايا 11 سبتمبر" يكشف بعض المخفيّ في العلاقات، وبعض النذالة في التصرّفات، وبعض التغيير في التفكير والوعي والتنبّه. أهلٌ وأقارب يرفضون مالاً، فالفقدان كبير، لكنّهم يقتنعون أخيراً بأنّ بعض المال يشفي جرحاً أو أكثر.

في مقالة منشورة في الموقع الإلكتروني الفرنسي "يومية السينما (lequotidienducinema)"، يكتب فرنسوا بوور (3 سبتمبر/ أيلول 2021): "أبعد من كونه قصّة حقيقية، الفيلم نداء للاهتمام بالضحايا وبأقاربهم". يُضيف: "هذه شهادة تُغرق المُشاهد مجدّداً في الحدث، كواجب الذاكرة". وصفٌ كهذا يختزل "قيمة"، المُفعم بانفعالات مؤثِّرة، فالجحيم الهابط على أناسٍ كثيرين، صباح يوم مُشمِس وجميل، يحرق أهلاً وأقارب، يعجزون عن تصديق الهول الضارب فيهم عميقاً. ورغم أنّ سارة كولانجلو تُنجز فيلمها الجديد بعد 19 عاماً على الجريمة، تتمكّن من إغداق كمٍّ هائل من المشاعر والبكائيات، في ذروة الصراع الحاصل بين عقل متعالٍ وصارم، وقلبٍ مفجوع بالقهر والغضب والانكسار.

القيمة الأساسية لفيلم كولانجلو كامنةٌ في الجانب المتعاطف مع أهلٍ وأقارب، وفي محاولة انتقاد (ولو مُوارِباً) آلية التعاطي الرسميّ مع المُصاب الأليم لهؤلاء الأهل والأقارب. الوحش في كينيث فاينبيرغ غير مستسلم بسهولةٍ لوقائع، فيها من الإنسانيّ والأخلاقيّ ما لا يُدركه. ثراء مالي واضح في عيشه مع زوجته، وفي مكتبه وملابسه، ومنطق يُعبِّر عنه بقسوة (المال المال المال)، في مقابل أناسٍ سيرتبك أمام بعضهم، مع أنّه يعمل من أجل التعويض المالي عن فقدان أقارب لهم وأحبّة. ارتباك يفضح الهوّة الكبيرة بينه وبين من يُفترض به أنْ يعمل لأجلهم. ارتباكٌ يختزل لحظة تبدّل، تضع صاحبها في جهةٍ أخرى نقيضة لجهته الأصل، من دون تناسي تأثيرات تنبّهه التدريجي لمنطقٍ يتحكّم بسادة الإدارة الأميركية، وبمشاعرهم إزاء فاجعةٍ كهذه، فهم يريدون خلاصاً بأي ثمنٍ، ولتُدفع الأموال، وليُغلق الملفّ.

 

 

"صندوق تعويض ضحايا 11 سبتمبر" يُنهي عمله بعد عامين على إنشائه (2003). كينيث فاينبيرغ يُكمِل عملاً غير قادرٍ على التنصّل منه: برفقة مساعدته الأساسية كارولاين، يذهب إلى ضحايا كوارث وأحداثٍ مختلفة في بقاع عدّة، لمساعدة أهلهم وأقاربهم. بهذا التحديد، المكتوب في جينيريك النهاية، يؤكِّد "قيمة" ما يوحي به مراراً في سياقه السرديّ: إنّه وثيقة بصرية تعكس وقائع حقيقية لمحامٍ، وصكّ تنقية صورته في الوقت نفسه، بغلافٍ سينمائيّ. كتابة السيناريو استناداً إلى كتابٍ له تقول إنّ "قيمة" يهتمّ بالمحامي أولاّ، وإنْ في فصلٍ من سيرته، لعلّه الفصل الأكثر حدّة وقسوة واضطراباً في حياته المهنية. الوثيقة البصرية تشير أيضاً إلى أنّ "قيمة" يمزج قليلاً من التمثيل والمتخيّل بكثيرٍ من التوثيق.

هذا نوعٌ بصريّ، تتمكّن سارة كولانجلو من صُنعه بحِرفية، رغم أنّ البكائيات والانفعالات أقوى من تبيان مسائل فنية ودرامية وجمالية أساسية. مايكل كيتون بارعٌ، لكنّ براعته مهنيّة بحتة، فلا جديد في أدائه، سوى تذكير ببعض أدوارٍ له مشابهة، خصوصاً في "سبوتلايت" (2015) لتوماس ماكارثي. يتشابه الفيلمان في استنادهما إلى قصتين حقيقيتين، وإلى تبوّء شخصيتي كيتون منصبين أساسيين في قلب فضيحتين، تختلف إحداهما عن الأخرى. فماكارثي يستعيد فضيحة التحرّش الجنسي لكهنة بوسطن، عبر فريق التحقيقات في صحيفة "بوسطن غلوب"، وكولانجلو تستعيد "فضيحة" الإدارة الأميركية في تعاطيها مع جريمة 11 سبتمبر، ومع أهل ضحاياها وأقاربهم.

الاشتغال المهنيّ متماسك في مستوياتٍ عدّة، أبرزها التوليف (جوليا بلوك)، المتمكّن من ربط المشاهد في سياقٍ ينتقل من لحظةٍ إلى أخرى، ويكشف ـ في بعض انتقاله هذا على الأقلّ ـ تناقضات وارتباكات ومخاوف وتبدّلات. لكنّ الجانب الانفعاليّ الغزير يحول غالباً دون التنبّه إلى جوهر السجال الذي توحي سارة كولانجلو به إزاء منطق المال ضد الفقدان، يُضاف إليه (الجانب الانفعالي) موسيقى (نيكو مولِي، بينما الإشراف الموسيقيّ لروبِرت هولِيار) تزيد من سطوة التأثير البكائيّ، الذي يُحوِّل جزءاً كبيراً من المناخ الدرامي إلى ميلودراما مملّة.

تفاصيل كثيرة يتضمّنها السرد تحتاج إلى تفسيرات قانونية واجتماعية، لكنّها لن تمنع مشاهدةً، يبدو أنّ أهمّ ما هو مطلوبٌ منها منصبٌّ على مسألتين اثنتين: متابعة مسار كينيث فاينبيرغ وتحوّلاته؛ وكشف علاقة أهلٍ وأقارب بـ"صندوق تعويض ضحايا 11 سبتمبر"، وبآلية عمله، وبتفكيرٍ مختلف لمنطق القيمة المالية في لحظة فقدانٍ مرير.

(*) العرض الدولي الأول لـ"قيمة" حاصلٌ في الدورة الـ36 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي"، علماً أنّ "نتفليكس" تعرضه منذ 3 سبتمبر/ أيلول 2021.

المساهمون