في الموسم الأول من المسلسل التركي "الرأس المحموم" (Hot Skull)، الذي انطلق بثه أخيراً على منصة نتفليكس الأميركية، نرى نسخة درامية نموذجية، تحاكي أعمال الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. وباء من نوع مختلف. أحاديث الناس تنتقل عبر الأذن، أي عبر السمع، فتتسبب بهلوسة. أعراض هذا المرض هذيان واضطرابات عقلية، يصيب الصغار والكبار. قبل ثماني سنوات، انتشر فيروس "لفظي"، كما يصفه بطل المسلسل مراد سيافوش (عثمان سونانت)، في تركيا وجميع أنحاء العالم. مع انتشار المرض، انتشرت الفوضى في تركيا، ما سبب في انهيار النظام الحاكم واستيلاء منظمة "م م و" على مقاليد السلطة بالقوة.
مفتاح الحكاية يرتبط بعالم اللغويات مراد. الشخص الوحيد الذي يملك مناعة ضد الفيروس. وهو ما سيجعله هدفًا رئيسيًا لمنظمة "م م و". تأخذ القصة مسارها بعد هروب البطل إلى المناطق غير الآمنة والمخصصة لاحتواء المصابين، والتي لا تخضع لسلطة المنظمة، وذلك لغاية الاختباء من جهة، ومن أجل البحث عن صديقه وزميله السابق الدكتور أوزغور من جهة ثانية. فهذا العالِم هو من استطاع التوصل بالصدفة لاختبار علاج ناجح على مراد؛ إذ ترأس كلاهما بعد انتشار الوباء، مشروع "إكس" الذي ترعاه المنظمة بحجة البحث عن علاج. إلا أن حريقًا مفتعلًا اندلع في المختبر قبل سنوات، أدى إلى إغلاقه وهرب مراد وموت أوزغور المزيف كما سنعرف لاحقًا.
هذا السيناريو سيمنح الأحداث مساحة مؤقتة للتوسع، والتعرف إلى الجانب المظلم من حياة مراد، وحاجته لإيجاد صديقه من أجل مساعدته في علاج رأسه. رغم مناعة البطل ضد الفيروس، إلا أن هناك أعراض حمّى مرتفعة تؤثر على دماغه بشكل حاد كلما واجه أحد المهلوسين حوله، إضافة إلى أحلام يقظة تراوده طوال الوقت. ومن هنا، يتضح لنا ارتكاز المسلسل على محورين أساسيين في نسج خيوط الحكاية: ملاحقة المنظمة للبطل وبحث الأخير عن صديقه لعلاجه.
يتخلل هذا السيناريو أحداث جانبية تحاول ضخ بعض الإثارة والتشويق، كحالات التمرد وحرب الشوارع التي تمارسها مجموعة "زائد 1" ضد كيان المنظمة الاستبدادي؛ ومناورات مراد في التسلل إلى عرين المنظمة لحذف هويته من السجلات الخاصة فيها. ورغم أن هذه الأحداث تمنح دفقًا في تشكيل السيناريو، وحيوية أكبر لتأزيم الأحداث، إلا أنها امتثلت لمناورات جانبية خالية من أية تأثيرات درامية تحد من رتابة العمل واختناقه في محاوره الرئيسية.
ولعل قصة كهذه، تقتبس من السينما والدراما الأميركية في تصوير دستوبيا متخيلة غارقة بالأوبئة، كانت قد اكتفت بتصوير المهلوسين وشكل انتقال العدوى في لقطات ومشاهد جامدة وباهتة، من دون استثمار حالات الهلع والتوتر التي عادة ما تكون الشرارة الأساسية لاشتعال فتيل الاحداث، وارتفاع صخبها، وهذا ما جعل المسلسل يفتقر إلى أزمة حقيقية تساهم في تكثيف حدة الصراعات ورفع وتيرتها، رغم الإيقاع الذي بدا متوازنًا طوال حلقات العمل الثماني.
من ناحية أخرى، تحسن كاميرا المخرج ميرت بايكال تصوير مدينة إسطنبول وأزقتها الخاوية وأبنيتها المدمرة وأحيائها الغارقة في الفوضى والمهلوسين. نستشعر وجود الكارثة ونتماهى معها عبر لقطات المخرج الواسعة والعامة، والمناظر المركبة، والتقنيات التصويرية المستخدمة ببراعة، إلى جانب التأثيرات الموسيقية العميقة والخاوية التي تناسب هذا النوع من الأعمال. إضافة إلى عاملي الإضاءة والألوان المميزين اللذين كانا من أهم العوامل التي ساهمت في إبراز عالم دستوبي غارق في الفساد والخوف والقتل والمرض.