مسجد العجمي... شاهد تاريخي وسياسي وعسكري في غزة

11 ديسمبر 2022
لا يحظى مسجد العجمي بالاهتمام الرسمي (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -

لم تتمكن عوامل الزمن من تغيير الملامح الهندسية والمعمارية لمسجد العجمي الأثري، في منطقة غزة القديمة، شرقي المدينة، والذي بقي على هيأته التاريخية العتيقة، على الرغم من تعاقب القُرون والحقب الزمنية والسياسية والاجتماعية المختلفة.

ويتربع مسجد العجمي، والذي أسسه الشيخ علي بن محمود العجمي، قبل 950 عاماً تقريباً، في شارِع المحكمة، وتحيط به العديد من الأعيان الأثرية، فيما تزينت جدرانه العتيقة بلوحة رُخامية تأسيسية تحتوي على آيات قرآنية، وتاريخ انشاء المسجد عام 376 هجري.

ولم يدخل على مسجد العجمي أي تصليحات، وبقي على هيئته القديمة، وكينونته الجميلة، حيث يضم ثلاثة أروقة داخلية كان يجلس في كل رواق شيخ يُعلم الأطفال القرآن، ومحرابين قديمين، ولا يتضمن المسجد أي عمود في المنتصف، باستثناء الأعمدة الجانبية للجدران المصنوعة من الحجارة الرسوبية السميكة، فيما يضم في الخارج كذلك ساحة سماوية، وإلى اليسار يضم غرفتين، كان يدفن في إحداهما الشيخ العجمي، وهو من أولياء الله الصالحين، وغرفة أخرى يُدفن فيها الإمام الصيحاني.

ويُعتبر المسجد صاحب الملامح العتيقة ممرًا للعديد من الحقب التاريخية والسياسية والعسكرية التي تعاقبت على فلسطين، فيما لا يزال عبق الماضي يفوح من جدرانه القديمة، حامِلًا ملامح قرون مضت، وفي طياتها الكثير من لحظات الفرح بالوفود القادمة لزيارة المكان من الدول العربية، والتحديات التي تمثلت في الحُروب والاعتداءات الاستعمارية البريطانية والإسرائيلية، علاوة على التحديات الطبيعية، والتي تغلب عليها، عبر بقائه صامدًا بملامحه العنيدة. وعن تاريخ المسجد، يوضح إمام مسجد العجمي القديم نبيل برزق، أنه يعتبر من أقدم المساجد الأثرية في بوابة حي الزيتون في مدينة غزة، والبوابة الرسمية، والمدخل الأساسي لبوابة غزة العتيقة، والتي تضم الكثير من الآثار القديمة، وتمثل بمجموعها تاريخ فلسطين وحضارته الأصيلة.

ويبين برزق لـ "العربي الجديد" أن المسجد قبل 900 سنة كان مدرسة لتعليم القرآن (الكتاتيب القرآنية)، إذ كان يجلس الشيخ في زاوية من زوايا المسجد، ويجلس بجواره الأطفال يعلمهم القرآن، وقد كان مدرسة لتخريج الحفظة قبل تسعة قرون، فيما بقي المسجد صامدًا في وجه العديد من التحديات حتى اللحظة. وتبلغ مساحة المسجد 250 متراً مربعاً ويُحيط به ما يسمى بالمدرسة الكاملية، نسبة إلى السلطان كامل ابن خالة صلاح الدين الأيوبي، وتحول المسجد في حقبة من الزمن، خلال الحرب العالمية الأولى، إلى مستشفى للولادة، وبجوار الغرفة مغسلة يُغسل عليها الطفل بعد ولادته، ولا تزال المغسلة موجودة حتى اللحظة، وبجوار الغرفة، يوجد غرفة أخرى سكنها مفتي فلسطين، الإمام الصيحاني قبل 800 عام، وهو مفتي المذهب الحنفي لمدينة غزة، وقد كان يؤم المسجد الناس من جميع أنحاء قطاع غزة لاستشارة الإمام بالفتاوى وأمور الدين، والأمور العامة.

وكغيره من المساجد الأثرية القديمة، ذات الملامح التراثية العتيقة، تعرض مسجد العجمي خلال الحرب العالمية الأولى إلى قصف من قبل طائرات القوات البريطانية، وقد تم تدمير مئذنته المصنوعة من الزان، والتي جيء بها من مدينة حلب السورية، وكان يصعد عليها المؤذن لرفع الأذان، ليسمعه كل سُكان الشارع القديم، ويُطلق عليه اسم شارع المحكمة، فيما تعرض خلال انتفاضة الحِجارة إلى عدة ضربات من الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يُحطم الأبواب والنوافذ خلال اقتحامه.

ومنذ 500 عام، يدرس العلماء في غزة، بعد تخرجهم من تخصصاتهم، العلوم الشرعية داخل المسجد، وقد زار المسجد الإمام النابلسي، وآسيا ابنة الإمام الشافعي، وقد دُفنت إلى جوار المسجد، فيما زاره كذلك الكثير من الشيوخ والمقرئين العرب، ومن بينهم المقرئ المصري محمود خليل الحصري، فيما يُعتبر المسجد مزارًا للأتراك في عيد الأضحى.

ويستشعر المصلون في المساجد القديمة، ذات الملامح الهادئة والبسيطة، وفي مقدمتها مسجد العجمي، والذي يُجاوره المسجد العمري الكبير، ومسجد السيد هاشم، ومسجد كاتب ولاية، راحة نفسية كبيرة، توضح مدى ارتباطهم في الأعيان العتيقة والأثرية، التي تحظى بمكان في القلب، يختلف عن المباني الحديثة. ولا يحظى مسجد العجمي والعديد من المساجد الأثرية العتيقة بالاهتمام الرسمي واهتمام المؤسسات، إذ تتعرض للتهميش وغياب الترميم الدوري لحفظ كينونتها وتفاصيلها الأثرية القديمة، فيما تتعالى بين الفينة والأخرى الأصوات المُطالِبة برعاية تلك الأماكن الأثرية، وحفظها من التأثر بعوامل الزمن وعوامل الردم والنحت والتعرية، والحِفاظ على قيمتها التاريخية والتراثية والأثرية العالية.
 

المساهمون