استمع إلى الملخص
- **أسلوب مريم جعبر السينمائي**: تعتمد على غريزتها وشعورها العميق، وتبتعد عن الأمور السهلة، مما يجعلها تبحر عكس التيار. فيلم "ماء العين" قدم رؤية فلسفية وتألق مشهدي.
- **مصادر إلهامها وتوجهاتها الفنية**: تأثرت بحكايات جدتها وأساطيرها، وظلت متشبثة بأصولها التونسية. فيلم "ماء العين" استكشف الجوانب الإنسانية والعنف الكامن، وخلق تعاطفاً مع شخصيات مرعبة.
عام 2018، عُرض "إخوة (Brotherhood)" للتونسية مريم جعبر في "مهرجان ساندانس"، واختير في اللائحة القصيرة لـ"أوسكار 2020"، ونال أكثر من 60 جائزة في نحو 50 مهرجاناً. ثم "ماء العين" (2024)، أول روائي طويل لها، عُرض للمرة الأولى دولياً في مسابقة الدورة الـ74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي".
جعبر غير مكتفية بالكتابة والإخراج، فهي مهتمّة بالإنتاج السينمائي أيضاً. تعترف أنّ أموراً عدّة اتّخذتها مصادفة، كدراستها السينما، وأنْ يكون "إخوة" قصيراً، وأنّها تثق بغريزتها، وتعتمد على شعورها العميق، وتُنقِّب في حنايا القلب وجنبات الروح. تمتلك ما يكفي من الجرأة والفضول، ولا تخشى الانجراف إذا أبحرت عكس التيار. ترغب في التجريب، وتؤمّل نتائجه. تبتعد عن الأمور السهلة، وإنْ كانت تعترف أنّها لا تملك إجابات واضحة.
مخرجةٌ ترى وتُبصر. ورغم حداثة سنّها، قدّمت في "ماء العين" رؤية فلسفية الطابع، موسومة بالتألّق المشهدي. تظلّ صُوَره ومناظره الطبيعية مع المُشاهِد طويلاً، لأنّ القصة وأرواح الشخصيات أكثر سطوعاً وتضافراً مع مكوّنات المشهد، الذي يمنح حرية مطلقة في فَكّ شيفراته، والعثور على ردود للتساؤلات.
التنقيب وراء المصادفة يكشف أنّها لم تكن مصادفة. جدّتها كانت تحكي لها حكايات وأساطير، فأحبّت مريم الحكايات. أما الجرأة، بل الطموح والرغبة في التفرّد، فمصدرها إصرار على النبش في قضية تكرّر طرحها في السينما التونسية، الوثائقية والروائية، في العشرية الأخيرة، وإنْ لم تخص هذه القضية تونس وحدها، لأنّ كثيرين من العالم انخرطوا فيها: شبابٌ جلبوا، بقراراتهم الانتحارية، فواجع وعذابات لعائلاتهم وأنفسهم، بانتسابهم إلى داعش في سورية، فكان مصيرهم الموت أو السجن.
أعمال كثيرة تناولت هذه المسألة، لكنّ مريم جعبر قدّمت زاوية مبتكرة وأصيلة في التناول.
شارك "ماء العين" في "آفاق" الدورة الـ58 (28 يونيو/حزيران ـ 6 يوليو/تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري": تركيز على عذابات أهل، تورّط ابنان لهم في تلك الحرب. أحدهما يعود بعد تعذيبه أبرياء، وقطع رقابهم، مُصطحباً معه إحدى ضحاياه. تركّز جعبر على مشاعر الأم المفجوعة، وقدرتها على التعامل مع قسوة الزوج، وإعادة الجانب الإنساني المُخبّأ تحت ستار القسوة.
رغم أنّها درست في كندا، حيث لا تزال تُقيم، ظلّت جعبر مُتشبّثة بأصولها التونسية، وحبها الكبير لعائلتها وبلدها، ولديها قدرة استثنائية على رؤية تفاصيل كثيرة عن الحياة اليومية للتونسيين، بصورة ربما لا يراها مقيمون في بلدها. الدليل على ذلك: أفلامٌ قصيرة وطويلة لها عن تونس، بينها وثائقي عن "ثورة" بلدها، يتناولها من وجهة نظر جدّها بشير.
بفضل "ماء العين" البديع، كان هذا الحوار معها، الذي بدأته بالتالي: "والدي مهندس، وأمي تهتم بنا مُسخِّرةً حياتها لنا. كانت النقاشات الفنية والثقافية تدور دائماً بين أفراد العائلة، إلى الأمور السياسية. لم يكن لدينا مسلّمات. النقاشات تتناول الدين والاقتصاد والتاريخ والفلسفة والفن التشكيلي. كنتُ أنصت إليهم منذ كنتُ صغيرة. اعتدت المشاركة معهم، والتعبير عن رأيي. الآن، أشعر أنّي محظوظة، لأنّي ولدت في عائلة ظلّ أفرادها يتساءلون ويطرحون كل الأمور للنقاش، من دون مسلّمات".
(*) كيف خُلق الرابط الذي جذبك إلى الفنون؟
منذ صغري، أُغرمت بالتصوير والرسم. في دراستي المدرسية، خضت أول تجربة لها علاقة بالسينما، وكنتُ أبلغ 16 عاماً. بدأت أجرّب هذا الفن، ضمن دروس مادة السينما. عندما حملت الكاميرا وبدأت العمل على فيلمٍ مع رفاقي، شعرتُ أنّ هذا ما أريد عمله في حياتي.
(*) لماذا السينما من بين الفنون كلّها، رغم أنّك مُغرمةٌ بالتصوير والرسم؟
وجدت في السينما كلّ شيء: التصوير والموسيقى والسرد والضوء والفلسفة والألوان. منذ صغري، كانت فاطمة، جدّتي لأبي، تروي لي حكايات، بعضها خرافي ومليء بالأساطير. كنت مُغرمة بهذه الحكايات عن تونس.
(*) كيف ولدت فكرة الفيلم؟
هذه تجربة خاصة جداً. بدأتُ عام 2017، عندما التقيتُ الإخوة الثلاثة، الذين لا علاقة لهم بالتمثيل: مالك وشاكر مشرقي، الاثنان الأكبران، أولاً. لقائي بهما حصل مصادفة، وكانا في رحلة. عندما التقيتهما، شعرتُ أنّ وجهيهما فاتنان سينمائياً. تزامن هذا مع سفر رجال كثيرين إلى سورية، تاركين عائلاتهم وراءهم. انتسبوا إلى تنظيم داعش.
هذه الفكرة ساحرة عندي. هكذا حصل تلاقح الفكرتين، فولد الفيلم القصير "إخوة".
(*) والفيلم الطويل؟
في القصير، اهتممتُ أكثر باستكشاف الأمور من وجهة نظر الأب. لكنْ، في التصوير، كنتُ أرى المرأة التي ترتدي النقاب وهي تتحرّك في الطبيعة، فشعرتُ أنّ هناك شيئاً شبحياً يخصّ شخصيّتها. هكذا تشكّلت فكرة الفيلم الطويل. تساءلت حينها: ماذا لو أنّ في هذه المرأة شيئاً له علاقة بالأرواح؟ عندما حكيتُ من وجهة نظر الأم، وجدتني أستكشف وجهةَ نظر نسائية بصورة لاواعية، وجزءاً من الإنسانية. مررتُ بنوع من العلاج في صنع الفيلم. شعرتُ أنّي أُعالج بالأحلام، والتواصل مع اللاوعي. أعتقد أنّ هذا مُترجَم في الفيلم من دون قصد.
(*) إحدى ميزات فيلمك اختلاف زاوية التناول، والبحث عن الجزء الإنساني القابع في الظلّ، في القسوة أو الوحشية. ثم خلقت تعاطفاً ما مع شخصيات مرعبة.
أعتقد أن في البشر جميعهم عنفاً. في مرحلة ما من حياتي، كان فيّ هذا العنف. لكنّ المهم يكمن في البحث عن الجوانب الإنسانية، وعن أسباب هذا العنف، وعن حلول لترويضه وتجفيف منبعه. الفيلم نوعٌ من رحلة استشفاء. عندما بدأته، كانت لديّ فكرة مسبقة ساذجة عن رحلة العلاج. كنتُ أتخيّل أنّها ستكون كمكان أذهب إليه لجلسةٍ أو اثنتين، أمضي وقتاً وأعود إنسانة صحيحة معافاة وفي حالة جيدة. لكنّ الرحلة طويلة، وعملية متكاملة.
(*) وجود "ميتافور" ملحوظٌ بقوّة بين المشاهد والشخصيات والطبيعة. كيف كنتِ تفكرين في هذه العناصر؟ هل رسمتِ المشاهد بوعي لرمزيّتها، أم جاءت من دون قصد؟
بعض الأشياء جاءت مصادفةً، من دون تفكير فيها، كالحصان الذي استخدمته رسولاً بين الواقع والأحلام، ولنقل رسالة إلى الأم. لكنّه يحمل دلالات مختلفة بين ثقافة وأخرى. ثقافات تراه مصدراً للخير، وأخرى لا تطمئن إليه. لكلّ شعب تاريخ وميثولوجيا خاصة به، ومن ثم هناك تاريخ متباين لصورة الحصان. عموماً، كلّ شخص يملك تفسيراً، لكنّي وظّفته دليلاً روحياً، كأنّه يرشد الأم ويقودها بين الواقع والحلم والعالم الروحي. كأنّه يلهمها ويريدها أنْ ترى الحقيقة. وأيضاً، هذه محاولة لمنح المُشاهد مزيداً من الإنسانية والجمال.
(*) ماذا عن الرمزية في شخصية ريم (ديا ليان)، التي تؤدّي شخصية المرأة المنقبة غير المسلمة، المُغتصبة من داعش، التي تقتل الجيران؟ تفسيرات الجمهور تباينت.
بداية أنا سعيدة بالاقتراحات والتفسيرات، وأتقبّل أيّ ترجمة يقدّمها كلّ مُشاهِد، لأنّها تشكّل جزءاً من ثقافته. في التلقّي، كلّ شيءٍ مُتاح ومُحتَمل، وليس هناك خطأ أو صواب.
سأخبرك ما أقصده بريم. إنّها جزءٌ من مهدي، ظلّه، أو الجزء الخفي الذي لا يُريد أنْ يعرفه ويراه عن نفسه. عند عودته إلى البيت، عرّف عنها زوجةً له. لم يكن يُريد أنْ يواجه ما فعله مع داعش. لكنّه، كلما ضغط على أسراره، ورفض البوح بالحقيقة، كان يُقوّي الجانب المظلم فيه ويجعله أكثر توحّشاً، فتزداد رغبة هذا الجزء فيه، كأنّها روح مظلمة، في أنْ تُستَهلك عائلته وجيرانه وبلدته كلّها. لكنّه يحاول إخبار أمّه بالحقيقة، عندما تُعطي الطفل الميت للأم. وتارة أخرى، يحاول إخبار الجيران بما حدث لها، عندما تقتل الرجل، فهذا الجزء يحاول القول: انظروا ماذا فعل بي. البعض ترجم هذا بوصفه مرضاً يتفشّى، أو رمزاً إلى داعش، التي تقضي على كلّ شيءٍ، وأنّها تمثّل التشدّد والظلامية المنتشرة بين الجيران وفي المقاطعة. هذا أعتبره تفسيراً مقبولاً أيضاً.