في سلسلتها الوثائقية الأخيرة، "مُصوّرو فلسطين" (2020)، المعروضة مؤخّراً في 6 حلقات على شاشة "الجزيرة الوثائقية"، تغوص المُخرجة الفلسطينية مروة جبارة الطيبي في تاريخ المدوّنة الفوتوغرافية الفلسطينيّة، بالوقوف عند سِيَر فوتوغرافية طبعت تاريخ الصورة في فلسطين. يتعلّق الأمر بالجيل الأول من الفوتوغرافيين، مؤسّسي المسار الفني والوعي الجمالي لصورة مُتخيّلة، لكنّها مُنتزعة من الواقع الفلسطيني.
في السلسلة تلك، تتعدّد مناظر مبانٍ دينية وأثريّة، شاهدة على تاريخ جريح. الصورة، التي شكّلت منطلق البحث والحلقات، تُؤكّد نظرة ذكية لمروة جبارة، وقدرتها على أخذ تفاصيل صغيرة من حياة المُصوّر الفوتوغرافي، ووضعها على شكل سيرة توثيقية ومُتخيلة في آنٍ واحد. جمالياً، تُظهر مروة جبارة فلسطين بأكثر من عين وعدسة وأرشيف فوتوغرافي، عاملة على إقامة حدود فاصلة بين التوثيق والتخييل. هذا مهمّ جداً، يكتسي عنصراً أساسياً في السلسلة، التي عطّلت بحِرفية كلّ الأشكال التقريرية المُباشرة، التي تُضعف قيمة العمل، وتَحدّ من مدى تأثيره وتوغّله في النسيج البصري الفلسطيني.
بمناسبة سلسلتها الوثائقية تلك، التقت "العربي الجديد" مروة جبارة الطيبي في حوار، هذه حلقته الثانية والأخيرة، بعد أولى منشورة في 5 مارس/ آذار 2021:
(*) في السلسلة، هناك طريقة واحدة في نسج الصورة وتركيبها، تقوم أساساً على الكشف من دون الإخفاء. هذا يبدو عادياً، نظراً إلى خصوصيات الفيلم الوثائقي، خاصّة أنّ السلسلة تُسلّط الضوء على روّاد الفوتوغرافيا، وتقدّم معلومات عنهم. لكنْ، كيف تعاملتِ مع المادة المُتوفّرة في الأرشيف الفلسطيني؟ كيف تمّ اختيارها وتصفيفها، قبل تأمّلها وعرضها؟
ـ كان حلمي أنْ أدخل إلى أرشيفٍ رسمي فلسطيني، وأبحث في المادة المتوفّرة، وأحدّد اختياراتي في كيفية الاستعمال. لكنّ حلمي، كالأرشيف وحال البلد، مُصادَرٌ، يسيطر الآخر على معظمه. لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الأرشيف، في حالتنا، غير متاح. ليس هذا فقط، بل مُصادَر أيضاً لدى أجهزة الاحتلال الإسرائيلي: استُهدِف الأرشيف في نكبة الـ48، ونكسة الـ67، وحرب لبنان عام 82. وأيضاً في الانتفاضة الثانية، بقصف مبنى "هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطيني" في رام الله. مصير قسم منه لا يزال غير معروف، ويحتاج إلى بحثٍ.
المتوفّر في أرشيف مؤسّسات فلسطينية، القليل أصلاً، لا يزال في مراحل التجهيز، لإتاحته إلكترونياً. صرفتُ جهداً ووقتاً، بحثاً عن أرشيفات خاصة، وغير متاحة. أثمر البحث صُوراً تظهر للعيان للمرة الأولى. عدستي محظوظة، لأنّها الأولى.
كم حسدت عيناي ما شاهدتهما. درجات انفعالٍ مختلفة أصابتني عند اطلاعي بالصُور على تاريخي للمرّة الأولى. لذا، أردتُ نقل هذا الشعور نفسه إلى مُشاهدي السلسلة، من دون تدخّل.
الصورة الأرشيفية لوحة فنية بحدّ ذاتها، لا تحتاج ـ بالنسبة إليّ ـ إلى إطار أو مساعدة. كشفها كافٍ.
(*) الاشتغال على الأرشيف العربي منسيٌّ في السينما العربيّة، الوثائقية والروائية، بسبب مطبّات منهجية تحول دون الاهتمام به. مثلاً: هناك صعوبة في نقل السِيَر الذاتية إلى مدارات الصورة ومتخيّلها، لكنّ الأمر يزداد صعوبة في "مصوّرو فلسطين"، نظراً إلى غياب سِيَر مكتوبة أصلاً. في هذه الحالة، كيف يُمكن لمُخرجٍ/ مخرجة الاشتغال على الأرشيف الفوتوغرافي، وتحويله إلى صُوَر وثائقية؟
ـ في النكبة، لم نفقد الأرض والسيادة فقط، إذْ سُلِبت كتبنا وأبحاثنا ومعرفتنا وصُورنا وأرشيفنا. كدنا نفقد معرفتنا بذاتنا. لكنّ الإرادة الفلسطينية أقوى من الاحتلال، وعملية البحث لم تتوقّف رغم الهزائم، ورغم أنْ سلب الأرشيف الشخصي والعام لا يزال هدف كلّ عملية تفتيش أيّ بيتٍ أو مؤسّسة فلسطينية. مع هذا، فلسطين بخير، وباحثوها يواجهون ويبحثون ويكتبون. لذا، اعتمدتُ في البداية على ما كُتب في سِيَر ذاتية وأبحاثٍ لمتري الراهب وعصام نصّار وسليم تماري وخالد عوض. ثم انطلقتُ في بحثٍ شخصي، معتمدةً على المصدر الأول: عائلات، أصدقاء، من عاش مع تلك الشخصيات. اعتمدتُ أيضاً على خبرة بحثية وتحقيقية، اكتسبتُها في 25 عاماً من العمل الصحافي، وعلى أدوات أكاديمية، تزوّدت بها في دراسة الماجيستر في السينما الوثائقية. هذا ميّز السلسلة، بإضافة معرفية كثيرة، من دون أنْ تقتصر على تحويل معرفةٍ إلى وثيقةٍ بصرية جميلة.
(*) الحديث عن الأرشيف يقودنا إلى التاريخ. إلى أيّ حدّ يُمكن لسلسلتك الوثائقية أنْ تكون وثيقةً بصرية، يُمكن للباحثين الاعتماد عليها في إنجاز بحوثهم وأطروحاتهم، إزاء غياب مادة تعمل على تأريخ المُدوّنة الفوتوغرافية الفلسطينية؟
ـ بنظري، السلسلة وثيقة تاريخية، تُضيف على الموجود في المكتبات، من إصدارات عن تاريخ الصورة، وعلى ما أنتج من أفلامٍ عن الصورة. السلسلة تجدّد أموراً كثيرة، فمنذ البداية، درستُ الموجود وانطلقتُ للتجديد. إلى الآن، لا يوجد كتابٌ أو مقالة عن كيغام جغليان، أحد المُصوّرين الأوائل في غزّة. الفيلم بمثابة بطاقة تعريفية عنه. ناصر سابا من أوائل مُصوّري فلسطين، لا يوجد عنه أي كتاب. الصورة الموقّعة بأول حرف من اسمه قادت إلى البحث عنه، ليتّضح أنّه والد فضيل سابا، وصُوره من عام 1880 ربما تكون الوثيقة البصرية الأولى لمدينة الناصرة. ما كُتب عن كريمة عبود لم يتطرّق إلى تصويرها أماكن أثرية في بلاد الشام عامة، وعبر صُوَرها في جرش أضفتُ الكثير.
بما أنّي اعتمدتُ على وثيقة تاريخية لسرد الحكاية، وارتكزت على بحثٍ علمي ومنهجٍ أكاديمي، يُمكن للسلسلة أنْ تكون وثيقة بصرية غنية، يُمكن للباحثين الاعتماد عليها من دون أدنى شكّ.
(*) هل يُمكن أن تكون هناك أجزاء أخرى، تُركّز على الأجيال الفوتوغرافية الجديدة في فلسطين، أم أنّ الأمر يقتصر على سِيَر الجيل الأول وحكاياته؟
ـ في الحقيقة، "مُصوّرو فلسطين" سلسلة وثائقية تُعرّف بمصوّري فلسطين في فترات تاريخية مختلفة، وبتخصّصات متنوّعة من التصوير. الصُور بطل رئيسي فيها، والمصوّرون أيضاً. السلسلة تستعرض أرشيفهم، وفيها لقاءاتٍ عنهم ومعهم، لرسم ملامحهم، والتعرّف على أعمالهم، ولنرى فلسطين من خلال عيونهم وعدساتهم المختلفة، من القرن الـ18 إلى اليوم.
تشتمل السلسلة على فيلمين لمُصوّرين مُعاصرين:
"المشهد الأخير" يروي قصّة الشهيد مازن دعنه وصديقه نائل شيوخي، اللذين عملا في وكالة "رويترز" بالتناوب. كاميرا واحدة ومُصوّران، لكنْ بمصيرين يختلف أحدهما عن الآخر. تعرّضا للضرب المبرح من المستوطنين، واستهدفهما جنود الاحتلال الإسرائيلي. فيه، نتصفّح برفقة نائل أرشيفهما الخاصّ، ونستعرض اللقاءات الصحافية وتوثيق الأحداث والمَشاهد من فلسطين بعدستهما المشتركة.
"عين البلد" يروي حكاية المُصوّر والباحث في التراث أسامة السلوادي. إنّه بمثابة عين الوطن وجسده. حمل الكاميرا، ووثّق بها أجمل صُوَر النضال الفلسطيني، بكلّ مهنية، لتتناقلها وسائل الإعلام الأجنبية. بعدسات مختلفة، تُرسم صُوَر ملاح شخصيته، وتُسرد حكاياته من أرشيفه، وأهم الأحداث السياسية التي عاشها. يبدأ الفيلم وينتهي بين صُوره وكتبه وإصدارته.
السلسلة المقبلة ستكون عن مُصوّرتين معاصرتين، ومُصوّرة من ستينيات القرن الـ20، وهي أول سينمائية فلسطينية طلائعية: سلافة جادالله، ابنة نابلس. إنّها أول من تعلّم التصوير وعملت مُصوّرة سينمائية، في فلسطين، وربما عربياً أيضاً. وهذا، مع التنبّه إلى الزمان والمكان، لتغطية الفترات والمناطق كلّها مع أمهر المُصوّرين.