استمع إلى الملخص
- الألبوم يجمع بين التراث والتجديد، بمشاركة ديما أورشو، ويعكس تأثيرات ثقافية متعددة من العثمانية إلى رومانيا.
- يعبر عن رحلة عبادو الفنية من بيروت إلى فيينا، محتفيًا بالتراث الإنساني ودور الفن في تجسير الثقافات.
يبدع الفنان الفلسطيني النمساوي مروان عبادو في ألبومه الجديد "لونغا فيينا"، مسخّراً كلمات الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم لكي يتمثل الهم الوجودي الذي يؤرق الإنسان في سعيه الأزلي إلى التحرر وعيش كينونته الفردية بعيدا عن الوصاية أو أي سلطة تحد من هذه الكينونة أو تستلبها، وذلك في أغنية "إن كان لي أن أعيش".
في أغنيته "عربي أنا"، للشاعر سميح القاسم أيضا، يؤدّي عبادو القصيدة بإيقاع بسيط هادئ بما يتناسب مع صوته وتباطؤ اللحن الموسيقي، كي يتسنى له أن يشرح هذا العربي نفسه: "رغم ما كدسوه على كاهلي، واستفزوا به معصمي، واستثاروا به كاحلي".
في أغنية "يا رب الغيث يا ربي"، ينتقل عبادو إلى التراثي المحدّث موسيقياً. دعاء كان الفلاح الفلسطيني ينشده، بما يشبه صلاة الاستسقاء في أوقات الجفاف. يؤديه عبادو بما يتناسب مع مشاعر الرجاء بهطول المطر، في تزواج الجملة الموسيقية بلغة الجسد. ترافقه المطربة السورية ديما أورشو بصوتها الشجي العذب مداورة في إنشاد الدعاء ببطء وتوسل لرب الغيث.
العزف المنفرد الذي يتخلل العمل جنبا إلى جنب مع صوت المغنية السورية ديما أورشو، والموسيقى التي تصوّر خرير المياه وزقزقة العصافير، تجتمع كلها لتجسّد ما تأثرت به الموسيقى العربية أيام السلطنة العثمانية حين عبرت مع غجر رومانيا إلى إسطنبول في أواسط القرن التاسع عشر، والتي استلهم منها مروان ألبومه الجديد "لونغا فيينا".
ألبوم يمثل تتويجا لرحلة بدأها مع الفنان بيتر روسمانيث في بيروت في أول حفل موسيقي جمعهما، ليتابعا صداقة جمعت الشخصي بالتجربة الموسيقية المشتركة، التي حملت منذ البداية مجازفة فارقة، بحسب بيتر. تأثُّراً بتلك التجربة، أصدر الفنانان أول عمل لهما تحت عنوان "مراكب"، بمجرد العودة من بيروت. وها هما اليوم يعيدان تكرار التجربة في "لونغا فيينا".
بعد ما يقرب من أربعين عاماً أمضاها عبادو في النمسا قادماً من بيروت، من أتون حرب أهلية مستعرة، يبدو "لونغا فيينا" تعبيراً عن سيره باتجاه حلمه الموسيقي. وُلد مروان عبادو في بيروت العام 1967، لكنه عاش تجربته الموسيقية في فيينا منذ حط بها وهو لا يزال في الثامنة عشرة.
يتأبط الغيتار الذي بدأ مشواره الموسيقي معه هاوياً ثم تلميذاً في مدرسة للموسيقى في فيينا. ما لبث أن تتلمذ على يد معلمه الأول في احتراف العزف على آلة العود الموسيقي العراقي عاصم الشلبي من المدرسة البغدادية، والتي أدارها الموسيقي الفلسطيني روحي الخماش.
أسس في بدايات التسعينيات فرقة مع مجموعة من الفنانين من البرازيل وبولندا وروسيا والنمسا. ساهم هذا في بلورة خلطة جميلة ـ بحسب عبادو- يمكن تسميتها موسيقى شعوب بحثاً عن جذورٍ في المشترك الإنساني ورؤية براعم فنه وهي تنمو بهدوء وعزم.
كان لكل واحد من أعضاء الفرقة جمهوره الخاص، وإن عزفوا جميعاً لجمهور متنوع من جنسيات مختلفة. لم يضع عبادو حدوداً لجمهوره المستمع، أيا كانت جنسيته، سواء داخل النمسا أم في بقية البلدان الأوروبية. كان بمثابة فنان متجول لا يكل عن حمل موسيقاه أنى ارتحل. فضلاً عن إحياء العديد من الحفلات الموسيقية في أرجاء عديدة من المنطقة العربية التي تراجع إحياؤها بعد أن اندلعت الحروب في أكثر من بلد عربي. عزف في القدس وبيت لحم، ثم منعه الاحتلال من دخول فلسطين "لأسباب أمنية".
كانت بدايات ولع مروان عبادو بالموسيقى عند انتقاله من مخيم ضبية إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 إلى ما كان يطلق عليه اسم بيروت الغربية. هناك، سكن مع عائلته في بناء انتقلت إليه. هناك، بدأ تأثره بالثقافة الفنية التي كانت تدرس في الجامعة اللبنانية حيث درس، وتزامن ذلك مع شيوع الأغنية السياسية والاجتماعية في لبنان، خصوصاً مع الشيخ إمام وزياد الرحباني ومارسيل خليفة وأحمد قعبور، وتجارب فنية عديدة لفتته إلى عالم الأغنية الملتزمة.
وبدأت تتفتح في روحه الرغبة في خوض عالم هذه الأغنية. لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ثم حرب المخيمات واشتداد الضغط على فلسطينيي لبنان، دفعت العائلة إلى إرساله إلى فيينا حيث يعيش أخوه الأكبر، خوفاً عليه من التعرض إلى القتل، فكانت البداية الثانية والقفزة الأساسية. هناك عاش تجربة الحرية التي يتطلبها كل فنان كي يبدع. عاش الحرية بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية، ما أثرى شخصيته الفردية وطور مفهوم الإنسان لديه، ووسع من آفاقه الثقافية، وانعكس على تجربته الموسيقية بسلاسة وعمق بما يقترب من أسلوب السهل الممتنع، سواء في البدايات، وحتى "لونغا فيينا".
أدّى عبادو الأغنية الفلسطينية مستمداً من التراث بعضاً من هذه الأغاني، ما لبث أن تمرس في كتابة الأغنية وتلحينها وتقديمها بصوته، كما فعل في "القمر كنو بلدنا ناسي، الزهر عإمو والريح قاسية، يا ناس غنوا القمر الليلة الليلة". لم تكن أغانيه سياسية مباشرة أو ملتزمة بالمعنى المباشر، بل كانت تحاكي اليومي المعيش الذي تتجسد فيه المقاومة الحقيقية بعيدا
عن نمطية الفلسطيني الضحية.
غنى لمحمود درويش "في الرحيل الكبير أحبك أكثر"، وقدم في العديد من ألبوماته معزوفات موسيقية خالصة، منفردة على العود، ومشتركة مع الفرقة التي أطلق عليها اسم "فرقة عبادو وشركاؤه"، وأصدرت العديد من الألبومات الموسيقية كانت أشبه بحوار مع الآخر والتفاعل معه.
يأتي ألبوم "لونغا فيينا" تتويجاً لرحلة استغرقت أربعين عاماً منذ حط الرحال في فيينا. أعوام جسد فيها مروان عبادو شخصية المثقف الملحن، وشكل نموذجا فريدا للفنان الأمين على التراث الإنساني. يحاكي فنه تطلعات الإنسان في معرض بحثه الدائم عن فضاء يحلق فيه بحرية.