بعد "مهرجان الجونة السينمائي" (مصر)، و"أيام قرطاج السينمائية" (تونس)، و"مهرحان سولمونا" (إيطاليا)، شارك "خديجة" (20 دقيقة، 2021)، للمصري مراد مصطفى، في الدورة الـ44 (28 يناير/ كانون الثاني ـ 5 فبراير/ شباط 2022)، لـ"مهرجان الفيلم القصير في كليرمون فيران" (فرنسا). مُشاركة تؤكّد مسيرة سينمائية متواضعة، جعلت مصطفى أحد الوجوه الجديدة والمهمّة والمُجرّبة في الفيلم المصري القصير.
على الرغم من استناد مصطفى إلى قاع المجتمع المصري للتعبير عنه باشتغاله على صُورٍ مُستلّة منه، إلا أن خطّ السرد يتشابه مع طُرق الحكي وأنماط الصُوَر، مع اختلاف الشخصيات وقصصها. فهو يعتمد دائماً على صُوَر تتحرّر من أوهامها، لتُعرّيه، وتستدعي تأمّلات ومُلاحظات عدّة في بُناه الداخلية.
لمراد مصطفى أسلوب خاصّ في التصوير ومُقاربة الموضوع وعناصر تدرّج اللون على الإطار والصورة، مُغذّياً إياها بحركة الكاميرا في مكانٍ واحد. شخصياته مُهمَّشة ومنسيّة ومغبونة ومهزومة، تبحث دائماً عن خلاصٍ روحيّ في مُجتمع يعجّ بالتناقضات والارتباكات والتصدّعات.
هذا واضحٌ في "خديجة": شابة تبلغ من العمر 18 عاماً (ملك طارق)، تتجوّل وحيدة مع طفلها الرضيع في مدينة لا ترحم. تضطرّ إلى إلقاء طفلها في النهر، بعد عجزها عن تربيته. إلى النصّ وجماليّاته، وخُلُوّه ـ في مَشاهد ومواضع عدّة ـ من الحوار، يكتفي مصطفى بالصورة كأسلوبٍ فنّي للتعبير عن مآزق المجتمع المصري، من دون ملاحقة الوقائع والأحداث والناس، بل بالتركيز على خديجة وجسدها وتحرّكاتها في منزلها ومدينتها، وبشكل أقوى على نفسيّتها المُنهدّة والمُضطربة إزاء طفلها.
بشأن "خديجة" والسينما، حاورت "العربي الجديد" مراد مصطفى:
للمرّة الثالثة يتمّ اختيار فيلمٍ قصير لك في "مهرجان كليرمون فيران"، أهمّ مهرجان دولي للأفلام القصيرة، وثاني أكبر حدثٍ سينمائي في فرنسا، بعد مهرجان "كانّ". كيف حدث هذا؟ ما الذي يعنيه لك هذا كمخرج مصري؟
هذا أمر عظيم بالنسبة إليّ. إنّها المرة الأولى التي يتمّ فيها اختيار 3 أفلام لمخرج مصري أو عربي واحد في المهرجان. لـ"كليرمون فيران" مكانة كبيرة في العالم، وفي الوطن العربي. في الأعوام الماضية، شهد المهرجان مشاركة مخرجين عديدين باتوا مفضّلين بالنسبة إلينا. هناك أيضاً شغف الجمهور الفرنسي الذي يُحرّضك على صُنع فيلمٍ بشكلٍ أفضل من الفيلم الذي سبقه، ليتمّ اختياره وعرضه في المهرجان. مميّزٌ جداً اختيار فيلم لك في المسابقة الرسمية للمهرجان.
كيف جاءت فكرة كتابتك "خديجة" وبلورته كفيلمٍ قصير لا طويل؟
خديجة شخصية نعرفها جميعاً. موجودة في كلّ المجتمعات العربية بأشكال مختلفة. هذا دفعني إلى رواية هذة القصّة، لأنّها تشبهني. هذه حكاية أرغب في أنْ أرويها، لأنّها تؤثّر فيَّ جداً، وظلّت فيّ أعواماً، إلى أنْ تشجّعت على إخراجها إلى النور. القصّة حسّاسة جداً، ونخاف دائماً من أنْ نحكيها.
ما حمّسني أيضاً أنّها تُكمّل ما بدأته سابقاً. في أفلامي الثلاثة ("حِنّة ورد" عام 2019، و"ما لا نعرفه عن مريم" عام 2020، و"خديجة" عام 2021 ـ المحرّر)، شيءٌ صادم ومشترك. هذه الصدامية ظلّت تتصاعد معي من فيلمٍ إلى آخر، وإنْ كان "خديجة" أكثرها صدمةً وعنفاً. هذا نابعٌ من الفكرة نفسها للفيلم، ومما يحدث في منتصفه. الفيلم يُتابع رحلة فتاة صغيرة في يومٍ عادي جداً، أو في يومٍ يبدو أنّه عاديّ جداً. تحت السطح، يكمن البركان. تقوم خديجة مع طفلها الرضيع ببعض الزيارات، وتنتقل من مكان إلى آخر، وسط ضجيج شوارع القاهرة وزحامها، والضغط الاجتماعي الذي تشعر به. الحدث العابر في منتصف الفيلم يتحدّى كلّ التفسيرات الممكنة للمنطق، لأنّه فعل يحاكي المشاعر أكثر مما يحاكي العقل.
هذا تحدٍّ خاصّ بالنسبة إليّ: كيف أصنع فيلماً قاسياً وصادماً إلى هذة الدرجة، وفي الوقت نفسه يحمل قدراً كبيراً من الإنسانية والمشاعر. دائماً، عندما أشاهد شخصيات حقيقية كخديجة في التلفزيون، أو أقرأ عنها في الصحف، وعن تعرّضها لفعلٍ يتحدّى أيّ تفسير، كنتُ ألاحظ أنّ ردّ الفعل الأمومي على هذا الحدث يأتي متأخّراً. كأنّ هؤلاء موجودون في زمن ومكان آخرين عند حدوث ذلك، ويستفيقون من الصدمة متأخّرين. إذْ يُمكن للبركان أنْ يظلّ خامداً لأعوام، لكنْ لا بُدّ له أنْ ينفجر في النهاية، بسبب الضغط.
في "خديجة" تنتهج أسلوباً سينمائياً يلتحم بالواقع. هل الواقع المصري مهزومٌ إلى درجةٍ تجعلك تُخصّص 3 أفلام بالمُرتكز الفكري نفسه، مع اختلاف النصوص وشخصياتها وحكاياتها، وطريقة تشابكها مع هذا الواقع؟
في البداية، كانت لديّ 3 حكايات عن نساءٍ يتعرّضن لضغطٍ وعنفٍ مجتمعيّ، بأشكالٍ مختلفة، وفي ظروفٍ مختلفة. الشخصيات النسائية مُلهمةٌ لي دائماً، فأنا طفل وحيد عاش مع والدته منذ الصغر، إلى وقتٍ قريب. كنتُ أسمع منها حكايات عن النساء. وهذا له تأثيرٌ كبيرٌ عليّ. فيلمي الأول "حنّة ورد" كان عن تجربة حقيقية عشتها مع أمي في ليلة حنّة.
تُثيرني المواضيع المتشابكة مع المجتمع المصري، في الآونة الأخيرة، وما يعانيه البسطاء من ضغوطٍ اجتماعية عليهم، وأيضاً علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالمجتمع والتغيّر الاجتماعي والثقافي الذي طرأ عليه، بسبب تحوّلات كبيرة في مرحلة ما بعد الثورة. سابقاً، كان يتميّز المجتمع المصري بسمات أصيلة، أقرب إلى الثبات. الآن، تظهر الهزيمة على وجوه الناس. هذا أبحث عنه وأرصده في حكاياتي، وشيئاً فشيئاً يلتحم مع هموم الناس وأحلامهم حالياً، ويتأثّر به المُشاهد، أيّاً تكن جنسيته. متأكدٌ من أننا نشعر به إذا شاهدنا الأفلام الثلاثة تباعاً. يُمكن لفيلمٍ أنْ يعبّر عنّي أنا شخصياً، كما عن أفكاري وهمومي كرجلٍ، ولو عبر "حدّوتة" بطلتها امرأة. في أفلامي السابقة والمقبلة، المرأة بطلةٌ.
كما ذكرتُ قبل قليل، لديّ 3 حكايات قاسية، أفكّر من خلالها في التغيّر الاجتماعي لأفكارنا ومجتمعنا، بمن فيهم الأطفال والرجال، لا النساء فقط. هذا الارتكاز الفكري يستحقّ صنع أفلامٍ عدّة.
الإنتاج فرنسي. هل يُؤثّر ذلك على خصوصية فيلمك؟ هل يمنحه حريةً في الاشتغال والتعبير؟
الإنتاج المشترك أمل صناعة السينما العربية. عامة، هذا صحّي ومفيد لكل الصناعات، لأنّه يفتح آفاقاً جديدة للجانبين. تجربتي مع الإنتاج المشترك في "خديجة" جيدة للغاية، ولا بُدّ من تكرارها.
الفيلم عبارة عن صُوَر صامتة ومُترابطة. الكاميرا تُبرز عنف المجتمع وضجيجه وتأثيره على نفسيّة المدينة، لكنّها تتوقّف أكثر على خديجة وهي تطوف في شوارع القاهرة. إلى أيّ حدّ يُمكن الحديث عن مقاربة نفسيّة أكثر منها اجتماعية؟
أردتُ صنع لحظات سينمائية صامتة، تُركّز على المشاعر الداخلية لخديجة، من دون الارتكاز إلى قصّة الفيلم. للارتكاز طريقة سرد مختلفة، تحمل مشاعر مضغوطة، من دون أحداثٍ متتالية لشخصية تعاني من عنف وضغط اجتماعي يحيط بها في كل مكان. نحن نشعر بالاختناق أيضاً. الاختناق اجتماعي ونفسي، وعليّ أنْ أظهره من خلال ممثلين غير محترفين، وحركة كاميرا متوترة، وقطع خشن وعنيف جداً في المونتاج، والأصوات الصاخبة تسيطر على الأماكن، لهذا لا يوجد حوار، فللصمت تأثيرٌ أكبر على المُشاهد. الصمت نوع من الحكي.
تبدو الصُوَر المفتوحة على الحياة، والمُشرّعة على التأويل، كأنّها لا تُقدّم أيّ رسالة للمُشاهد. هل تتوقّف وظيفة المُخرج اليوم على رصد الواقع وتعريته؟
أوافقك في هذا. المخرج ليس رسولاً ليُرسل رسائل إلى المشاهدين. ما يتوجّب عليَّ فعله أنْ أطرح المواضيع التي تهمّني وتُشغل بالي، حتى لو خاف الناس من مواضيع كهذه. صدمة المُشاهد ضرورية ليتخلّص من خوفه. دور المخرج أنْ يرصد ويفكّر ويُشارك الجمهور والنقّاد هذه الأفكار، من دون أنْ يفرض رأياً مُحدّداً.
هذا فعلته في أفلامي السابقة. أفضّل ترك باب التأويل مفتوحاً، لأنّ السينما التي أحبّ تطرح أسئلةً، لا تلك التي تقدّم إجابات محدّدة، وتطرحها على الجمهور.