بحكم المناخ الحار الذي يتسم به عدد من البلاد العربية، لجأ المعماريون والبنّاؤون العرب، عبر قرون، إلى وسائل مبتكرة للتغلب على قسوة المناخ في مدنهم. تمثل هذه الأساليب المعمارية التقليدية مرجعية لا يُستهان بها اليوم للعديد من أشكال العمارة العربية المعاصرة. ومع تزايد وضوح التأثيرات العالمية لتغير المناخ، تتأكد الحاجة الملحة للتكيف مع ارتفاع درجات الحرارة والظواهر المناخية المتطرفة في جميع مدن العالم. فهل يمكن أن تمثل العمارة العربية التقليدية مصدر إلهام للمعماريين الغربيين الباحثين عن حلول تصميمية جديدة لتجاوز أزمة المناخ في مدنهم؟
من أجل تسليط الضوء على هذه الحلول التصميمية المبتكرة في العمارة العربية التراثية، ينظم متحف فيترا للتصميم (Vitra Design Museum) في جنوب ألمانيا، حتى الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، معرضاً تحت عنوان "مدن حارة". يضم المعرض نماذج من هذه الحلول التي قدمتها الحضارة العربية للتغلب على قسوة المناخ.
يعتمد المعرض على مشروع الباحثين الإماراتيين أحمد وراشد بن شبيب، الحائزين جائزة الأسد الذهبي في بينالي البندقية للعمارة عام 2021. يضم المعرض نماذج معمارية من عشرين مدينة عربية، تغطي فترات زمنية وأنماط بناء مختلفة. تُسلط هذه النماذج الضوء على أهم السمات التي تتمتع بها العمارة العربية، والتي يمكن أن تمثل مصدر إلهام للمعماريين المعاصرين. يسلط المعرض الضوء على الأساليب التي اتبعها المعماريون العرب على مدى قرون للتكيف مع تعقيدات البيئة المحيطة، من حرارة وجفاف ورياح محملة بالأتربة.
تأتي أساليب التصميم السلبي من أهم السمات التي يركز عليها "مدن حارّة" لمواجهة تحديات الحرارة، وهي إحدى السمات المهمة للعمارة العربية. يمكن لنهج التصميم السلبي التقليل من الاعتماد على أنظمة التبريد كثيفة الاستهلاك للطاقة، وبالتالي التقليل من الانبعاثات الضارة بالبيئة. يشير مصطلح التبريد السلبي إلى مجموعة التقنيات أو أساليب التصميم المستخدمة لتبريد المباني، من دون الاعتماد على المكونات المستهلكة للطاقة الميكانيكية، مثل المضخات والمراوح. يضمن هذا الأسلوب تقليل انتقال الحرارة إلى المبنى عن طريق العزل والتظليل، وإزالة الحرارة غير المرغوب فيها من المباني عبر فتحات التهوية. يتجسد هذا النمط على سبيل المثال في عدد من العناصر المعمارية، مثل الفناء الداخلي ومساقط الهواء والشوارع الضيقة التي تعزز التهوية الطبيعية وتقلل من تأثير حرارة الشمس لخلق أجواء مريحة.
تأتي خامات البناء بين العناصر المساعدة أيضاً، والتي لم يغفلها المعرض؛ إذ تتضمن طيفاً متنوعاً من المواد التقليدية، مثل الأحجار الجيرية والطوب واللبن والطمي، إلى جانب المواد الحديثة، كالألواح الشمسية والأسطح الخضراء. يُظهر "مدن حارة" كيف يساهم هذا الدمج بين المواد التقليدية والحديثة في مقاومة المناخ المتطرف، والحد في الوقت نفسه من الاعتماد المفرط على وسائل التبريد الضارة بالبيئة. كما تأتي المشربيات من بين أهم العناصر التي تعتمد عليها العمارة العربية، والمصممة للتقليل من نفاذ أشعة الشمس المباشرة، مع السماح بالضوء الطبيعي والتهوية. ولا تساهم المشربية في تقليل استهلاك الطاقة فحسب، بل تعزز أيضاً المظهر الجمالي للنسيج الحضري.
لا يقتصر المعرض على الإنشاءات المعمارية فقط، بل يتطرق أيضاً إلى الوسائل المبتكرة للتعامل مع أزمة المياه وندرتها في كثير من البيئات العربية. يشير جانب من المعرض إلى الأساليب المختلفة التي لجأت إليها المدن العربية لإدارة المياه، حيث تعرض نماذج من الأنظمة التقليدية، مثل القنوات والأفلاج المستخدمة في تجميع مياه الأمطار والسيول كحلول فعالة للحفاظ على المياه واستدامتها.
يهدف "مدن حارة" إلى إحداث تحول في الأساليب المتبعة في التخطيط الحضري، وتشجيع المعماريين وصانعي السياسات ومخططي المدن حول العالم على تبني استراتيجيات محددة السياق تعطي الأولوية لمقاومة المناخ.
وقد لا تكون حلول التصميم المعماري والحضري التي يضمها هذا المعرض قابلة للتكرار بشكل مباشر في كل سياق، إلا أنها توفر بلا شك مصدر إلهام قيّم وثري للمعماريين الساعين لإيجاد حلول تصميمية مقاومة للمناخ المتطرف في جميع أنحاء العالم.