"وذابت المخطوطة التاريخية المهمة في الحامض". عبارة قالها الممثل المصري، بيومي فؤاد، في أحد البرامج، بلهجة اعتبرها متابعون على مواقع التواصل الاجتماعي "مفعمة بالاستخفاف".
عقب انتهاء فؤاد من حكايته عن أيام توليه إدارة ترميم المخطوطات الورقية في وزارة الثقافة، دارت الضحكات على وجوه المذيع شريف منير وابنته، في برنامجهما المذاع قبل سنوات على إحدى القنوات المملوكة للمخابرات.
ورغم ما أحدثه بثّ الحلقة من صدى وجدل، أعقبه تقديم بلاغات رسمية للتحقيق في الواقعة، إلا أن "شيئاً لم يتم لكشف تفاصيل الواقعة ولا محاسبة الموظفين"، بتعبير مراقبين اعتبروه "أمراً يناسب الإهمال الجسيم الحاصل بمختلف المواقع المسند إليها الحفاظ على التراث".
واكتشفت إدارة دار الكتب والوثائق القومية أخيراً، اختفاء ستة مجلدات من مجلة الوقائع المصرية، الصادرة عام 1828، إبان فترة حكم محمد علي باشا، وتُعَدّ من أثمن المقتنيات الموجودة بدوريات دار الكتب، إذ إنها أول صحيفة عربية تصدر في الشرق الأوسط.
كشف تفريغ كاميرات المراقبة أن هذه المجلدات ظهرت لآخر مرة مع عدد من المسؤولين في سفارة أجنبية، صوّروا بعض الصفحات منها لاستخدامها في مناسبة ثقافية مقبلة، ولم ترصد الكاميرات أين اختفت بعد ذلك، كذلك لم تبين الكاميرات خروج المجلدات من بوابات الدار.
بدوره، تقدم النائب في البرلمان، عبد المنعم إمام، بطلب إحاطة موجه إلى وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، لسؤالها عن اختفاء المجلدات الستة. وقال باحثون إن أخطر ما في قصة اختفاء المجلدات من دار الوثائق المصرية التابعة لوزارة الثقافة، أن فيها ما يثبت أحقية مصر في جزء من جزيرة كريت اليونانية.
هذه الواقعة تكرار لأخرى شبيهة وقعت قبل سنوات، بسرقة مخطوطة "الرسالة" للإمام الشافعي. وتوصلت التحقيقات إلى أن مجهولاً استولى على المخطوط في أثناء الاحتفال بيوم الوثيقة. "الرسالة" من أقدم المخطوطات المكتوبة على الورق في العالم، وأول كتاب أُلف في علم أصول الفقه، ويرجع إلى القرن الثاني الهجري.
على إثر هذه الوقائع، تظهر تفاصيل عن حجم "الإهمال" المتفشي في أروقة المؤسسات المعنية بالحفاظ على التراث، ويذهب ضحيتها موظفون صغار، بينما يبدو مدهشاً للمتابعين، أن مسؤولين عن الفساد تجري ترقيتهم أو توليتهم مواقع أخرى.
الأزمة التي تعانى منها دار الكتب والوثائق، أزمة وطنية وليست مالية فقط
في واقعة بيومي فؤاد، جاء رد فعل إدارة الفضائية بحذف المقطع، عقب حملة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي طالبت بالتحقيق في الواقعة. أما واقعة رسالة الشافعي، فيرجع تاريخ سرقتها إلى عام 2002، وأعلن باحث في جامعة كامبريدج با أن المخطوطة بيعت في مزاد في لندن لمشترٍ مجهول، وأنها اختفت للأبد.
أنجزت الإدارة جرداً كاملاً، كشف عن سرقة 300 مخطوطة أخرى، بينها 109 مصاحف بخط اليد، فصدر تقرير عن فقدان مخطوطة "الرسالة"، وحسب.
وفق صحيفة أخبار الأدب التي أشارت إلى الواقعة قبل سنوات، فإن الرئيس الأسبق لدار الكتب، صلاح فضل، الذي وقعت الواقعة في عهده، لم يبلغ النيابة العامة بالواقعة، إلا بعد نحو أسبوع من وقوعها، مكتفياً بتحقيق داخلي.
ربيع محمد إسماعيل، الموظف المتهم بالسرقة، قال في التحقيقات إنه فور اكتشاف الواقعة استدعاه فضل إلى مكتبه وطلب منه عدم الحديث في الموضوع، وزاد أنه طلب منه إشاعة العثور عليها بين زملائه، كذلك طلب منه طباعة نسخة من المخطوط المسروق، كانت محفوظة على جهاز الكومبيوتر، وإيداعها بالمخزن بدلاً من المسروقة.
وفي تصريحات لفضل قبل رحيله، قلّل من قيمة المخطوط المسروق، وهو ما صرح به رئيس الإدارة المركزية بالدار جلال الغندور، مؤكداً أن المخطوطة ليست للشافعي، بل لأحد تلاميذه.
وفند الرئيس السابق لقطاع الترميم اليدوي بدار الكتب والوثائق، بكري سلطان، كلام المسؤولين، ملمحاً إلى أن الأزمة التي تعانى منها دار الكتب والوثائق، أزمة "وطنية" وليست مالية فقط، نافياً انعدام أهمية الرسالة المسروقة.
أوضح سلطان أن الرسالة تُعَدّ أكبر موسوعة فقهية إسلامية في تاريخ الإسلام، وأنها رسالة أخرى غير الرسالة الأم، فقد كتبها الربيع بن سليمان وأنهاها ونظر إليها أكثر من ثلاثين مرة بخط يده، فهي تحتوي على السنوات الخمس التي قضاها الإمام في مصر بعد انتقاله من العراق.
وكشف المسؤول عن أن رئيس دار الكتب وقتها، صلاح فضل، شكل لجاناً أفضت إلى إصدار تقريرين أحدهما ختامي سري، والآخر أذيع للجميع، وهو ما جاء فيه أنه لم يسرق سوى رسالة الإمام الشافعي فقط، متجاهلاً باقي الوقائع.
وأشار سلطان إلى أن كل مسؤول جاء عقب هذه الواقعة، كان يكتفي بعمل حصر للموجود (وليس جرداً)، ليمرر فترة مسؤوليته بسلام. والفرق بين الحصر والجرد كبير، حسب تصريحاته الصحافية، موضحاً أن الجرد يستلزم مضاهاة الموجود فعلياً بالمخازن بالمثبت على الورق، ما يكشف المفقودات، أما الحصر فيكتفي بإيراد أرقام عن الوثائق.
عرض سلطان القضية على وزير الثقافة الأسبق حلمي النمنم، الذي اكتفى بأن قال له "كلاماً مريحاً للأعصاب"، من دون اتخاذ أية قرارات، بحسب تصريحاته.
المدير الأسبق لدار الكتب المصرية، أيمن فؤاد، أشار بدوره إلى الواقعة خلال المؤتمر الدولي الأول لمركز المخطوطات المنعقد في مكتبة الإسكندرية عام 2004، تحت عنوان "مخطوطات الألفية".
ولفت -خلال كلمته في المؤتمر- إلى أن تحقيقاً داخلياً كشف عن أن دار الكتب المصرية يختلط فيها كل من المكتوب والمنسوخ والمصور في أثناء الفهرسة، إلى جانب المخطوطات "المزورة" التي تُنسَخ لكي توضع بدلاً من أي مخطوط يُسرق، ويجري التعامل معها على أنها أصلية وليست مقلدة.
وأنه رغم الاحتياطات الأمنية الموسعة والقيود الصارمة على الدخول والانتقال داخل دار الكتب وعلى تصوير المخطوطات، إلا أن سرقات المخطوطات ما زالت مستمرة.
جاء رد الرئيس الأسبق لدار الكتب المصرية محمد جلال غندور الذي كان حاضراً الجلسة، عنيفاً؛ فهبّ مدافعاً عن دار الكتب، وقال إن دخول دار الكتب يتم بسهولة ويسر، موضحاً أن جميع المخطوطات بالدار متوافر منها نسخ على أسطوانات الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت. وأكد أن الفهرسة تحصل بطريقة آلية وعلمية صحيحة يجري فيها تصنيف المنسوخ والمصور والمكتوب كل على حدة، نافياً "الادعاءات" بوجود إهمال، من دون أن ينفي السرقات التي تحدث عنها المسؤول.
وفي سلسلة السرقات والإهمال، اختفت عام 2018 مخطوطات نادرة من قصر ثقافة طهطا في سوهاج، تعود ملكيتها للشيخ رفاعة الطهطاوي، وتضم النسخة الأصلية لكتاب الأغاني للأصفهاني و20 جزءاً مخطوطاً لمجموعة لسان العرب ومخطوط الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، بالإضافة إلى أمهات الكتب والمراجع تعود لسنة 898 هجرياً والأحدث فيها لسنة 1319 هجرياً.
وكشفت التحقيقات أن إدارة هيئة قصور الثقافة نقلتها إلى القاهرة لترميمها، بعد تعرضها للإهمال من سوء التخزين، وأن 5% منها فقط كان تالفاً، والباقي سليم.
وأعادت الكويت أخيراً لوحة زهرة الخشخاش المسروقة بعد تهريبها إليها، كذلك أعادت أخيراً آثاراً أخرى مهربة، لتجري سرقة زهرة الخشخاش عام 2010 مجدداً، هذه المرة دون عودة حتى اليوم.
ولم يتوقف مسلسل السرقات لمتاحف تضم آثاراً مصرية قديمة أو إسلامية أو لوحات وقطع فنية حديثة غالية الثمن، كان منها سرقة متحف الفن الإسلامي بوسط القاهرة، ومسجد الرفاعي الشهير.
كذلك قام عمال فنيون مصاحبون لفريق عمل فيلم الكنز بسرقة تحف فنية وسجاجيد قديمة من مسجد الرفاعي في أثناء تصوير مشاهد فيه للممثل محمدرمضان، وأعيدت المسروقات بعد تحقيقات طويلة.
وعقدت لجنة الإعلام والثقافة في مجلس النواب اجتماعاً أخيراً لمناقشة مشروع القانون المقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 8 لسنة 2009 بشأن حماية المخطوطات، بحضور ممثلين للحكومة من وزارات العدل والدولة للمجالس النيابية والثقافة. ووافقت اللجنة على إجمالي مشروع القانون كما ورد من الحكومة.
وتضمن مشروع القانون ثلاث مواد بخلاف مادة النشر، واستهدف المشروع مد نطاق الحماية المكفول للمخطوطات في ضوء تعدد طبيعة مواد الكتابة التي دونت بها هذه المخطوطات، وكفالة دور اللجنة المنوط بها حماية تلك المخطوطات في عمليات الصيانة والترميم والحفظ، وإعادة تنظيم مسؤولية صيانة وترميم المخطوطات التي يحوزها الغير في إطار المبادئ الدستورية، وتحميل حائز المخطوط تبعة مخالفته التزامه المحافظة عليه.
وأوجب المشروع -حفاظاً على المخطوط- إيداعه لدى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية في حالتين، هما: عند ضبط المخطوط لحين انتهاء التحقيقات. والثانية، في حالة صدور حكم قضائي بمصادرته.
وفي جميع الأحوال، يجوز للهيئة الرجوع على حائز المخطوط بالمصروفات التي تحملتها لصيانة المخطوط أو ترميمه، إذا كان الحائز قد تسبب في تلفه كلياً، أو فقده.
وقال الكاتب الصحافي حمدي رزق إن اختفاء المجلدات الستة من جريدة الوقائع المصرية، خبر "يحرق الدم"، مضيفاً: "الوقائع تختفى، ويقيناً المخطوطات النادرة في خطر، ودار الكتب والوثائق تحتاج إلى نسق تأمينى مغاير، ليس هكذا تُحفظ الوثائق القومية".
وأشار إلى أن اختفاء المجلدات الستة جرى التعامل معها بشكل روتينى بتحقيق داخلى، والإحالة للشؤون القانونية، وهكذا دواليك، ثلاثة أسابيع والمجلدات مختفية، معرباً عن مخاوفه من أن هذا وقت كافٍ لدحض آثارها قطعيّاً.
وأكد أن الحفاظ على المخطوطات قضية أمن قومي، كانت تستوجب تحقيقاً على مستوى عالٍ اتساقاً مع خطورة الواقعة والأهمية التاريخية للمجلدات المفقودة.
وانتقد رزق في مقال له نُشر أخيراً تصريحات رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق المصرية، نيفين موسى، وعدّها محبطة، ومعبّرة عن تنصل من الواقعة، إذ تنفي احتمالية التهريب.