محمد فتيان: تجربتي في تدوين التراث السوري مرتبطة بالحنين

22 مايو 2023
محمد فتيان: في لحظة أقلّد صوت عصفور وفي أخرى أقلد صوت الماء (تورسترن ردلر)
+ الخط -

استوفى عازف الناي السوري، محمد فتيان، شروطاً قدمته كواحد من أهم العازفين العرب للآلة الشرقية. تلقّى فتيان دراسته الأكاديمية للناي في المعهد العالي للموسيقي في دمشق. وخلال فترة وجوده في سورية، شارك في فعاليات أقامتها الأوركسترا السيمفونية، كما كان أول عازف للناي ينضم إلى أوركسترا الجاز الوطنية لدى تأسيسها في عام 2006، وعزف في سورية مع العديد من فرق الأوركسترا الغربية. لدى انتقاله إلى ألمانيا في عام 2010، أطلق العازف الحلبي مشروعه المهم في دمج موسيقاه العربية مع موسيقى الجاز. إلى جانب ذلك، يعمل فتيان حالياً على تدوين التراث الموسيقي السوري. حول تجربته ومشروعه، أجرت "العربي الجديد" معه هذا اللقاء.   

كيف كانت البدايات؟
جاءت البداية صدفةً، حين كنت في الـ16. كنت أسير في منطقة حي الفرج بمدينة حلب. قابلت بائع نايات يعزف على الطريق، شدّني الصوت، ليلمحني شخص بجانبه رغّبني في شراء الآلة. وبالفعل قمت بذلك، بعدما أوهمني أنني أستطيع العزف عليها بمجرد النفخ فيها. مع ذلك، أقول دائما إن الرجل، من دون أن يدري، باعني مستقبلي. انطلقت بالناي وحاولت العزف عليه. لكن لم تنجح محاولاتي بالطبع، ليوجهني جاري عازف الناي إلى باحث موسيقي معروف في مدينة حلب، اسمه محمد القصاص، تدربت على يديه لمدة ثمانية أشهر، التحقت بعدها بالفرقة الموسيقية التابعة لمؤسسة الشبيبة السورية، وهي مؤسسة معنية باستقبال المواهب. ومن خلال الحفلات التي كانت تقدمها بين الحين والآخر، لاحظ عدد من الأساتذة موهبتي، فجعلوني أساسياً في كثير من الحفلات. وخلال هذه الفترة، أقامت "الشبيبة" مسابقة للعزف على مستوى القطر السوري، فزت فيها بالمركز الأول. وهذا بالطبع شجعني كثيراً؛ صار لدي طموح أكبر في دراسة الناي، فقررت الالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى إثر حصولي على شهادة الثانوية، لأبدأ حينها دراستي الاحترافية.

أي موسيقي يعيش في بلد غربي، لا بديل له عن إيجاد توافق بين موسيقاه ونظيرتها الغربية. كيف حققت هذا؟ وما الذي رجّح لديك موسيقى الروك لتستعملها في هذه المعادلة؟
ما ساعدني على أن أجد صلة بيني وبين الموسيقى الغربية عدة عوامل، الأول والأهم يتمثل في دراستي بالمعهد العالي للموسيقى في دمشق. فإلى جانب آلة الناي، درست البيانو، وتلقيت بالطبع دروساً في الموسيقى الغربية الكلاسيكية، كما تعرفت إلى الهارموني. كل هذا عقد صلة وثيقة بيني وبين الموسيقى الغربية. وخلال تلك الفترة، شاركت مع أوركسترا الجاز السورية لدى تأسيسها عام 2006، لأكون أول عازف للناي فيها. ومن خلالها اكتسبت خبرة مهمة، إذ اهتمت الأوركسترا بتطويع الأعمال العربية وتوزيعها لتتناسب وموسيقى الجاز. كما حرصت كل عام على استضافة عدد من الموسيقيين العالميين، ليسهموا في أعمال الأوركسترا. في هذه الفترة أيضاً، تحديدا بين عامي 2005 و2010، دُعيت للعزف في أكثر من أوركسترا غربية، كل ذلك جعل لدي مخزون جاهز ساعدني على البدء فوراً في مشروعي لدى انتقالي إلى ألمانيا، من خلال دعوة تلقيتها من أحد المهرجانات الموسيقية هناك. حينها، اجتمعت بصديق موسيقي ألماني، طلبت منه أن يساعدني بمشروعي في مزج الموسيقى العربية وموسيقى الروك. أما اختياري للروك تحديداً؛ فلأنها قريبة جداً إلي، وتحرضني دائما على الكتابة لها. بالفعل، ساعدني صديقي في العثور على العازفين الذين احتجتهم للبدء، لتضم الفرقة ثلاثة عازفين؛ واحد للباص وثان للغيتار وثالث على الدرامز. كنا نجتمع مرتين في السنة لمدة ثلاثة أيام في كل مرة، أكون خلالها قد كتبت اللحن لنقوم بتوزيعه. وبعد ثلاث سنوات، أنتجت أول ألبوم لي، هو "فضاء شرقي". كذلك، دعيت خلال تلك الفترة إلى العزف مع الأوركسترا البلجيكية الرسمية في عدد من حفلاتها، وعزفت أيضاً مع أوركسترا للجاز في سويسرا. كل هذا جعل لدي حصيلة كبيرة لأتقدم بموسيقاي الخاصة.

هل لك أن تعرّفنا إلى تجربتك في تدوين التراث السوري؟ وما هي بصفة عامة الموسيقى التي تميل إلى عزفها؟
تجربتي في تدوين التراث السوري مرتبطة بالحنين، خاصة التراث الحلبي، الذي درجت عليه في حفلات أعراسنا وفي مناسباتنا المختلفة. كانت الموسيقى جزءاً أساسياً من حياتنا، لذلك تدوين هذا التراث وعزفه أمر محبب لي كثيراً. وبعد استقراري في ألمانيا، صار الحنين إليه أكبر، ومن خلال "فتيان أكاديمي"، وهي أكاديمية أعمل على تأسيسها حالياً، بدأت في تدوين الموسيقى التراثية السورية، فالتدوين يخدم هدفاً تعليمياً، وقريباً سيتوافر عدد كبير من المقطوعات التراثية السورية على موقع "فتيان أكاديمي". وبالنسبة للموسيقى التي أفضلها، فأميل أكثر إلى الموسيقى العربية، لأني مثلما أخبرتك، نشأت على الكلاسيكيات، مثل أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب، كذلك التراث السوري وبالأخص الحلبي، هو الأقرب إلي.

مقطوعة "جنون الناي" التي عزفتها مع إحدى فرق الأوركسترا، هل هي مجرد ارتجالات؟ أم بداية لمشروع موسيقي جديد؟
هي ارتجال عفوي، أدّيته أثناء حفل لأوركسترا هولندية في مدينة روتردام، حين طلب مني المايسترو أن أقدم بعض الارتجالات في مقدمة أحد الأعمال. بصراحة، أحببت أن أعزف شيئا خارجا عن المألوف، فأغمضت عينيّ وبدأت في العزف، لأكرر هذا النوع من الارتجالات التجريبية مع أوركسترا تريكستا الألمانية، التي اعتادت على دعوة عازفين من جنسيات مختلفة، من ثم وجهت لي الدعوة كعازف عربي. وأواظب منذ ذلك اليوم على تقديم هذه الارتجالات عبر 5 إلى 10 حفلات تقيمها الأوركسترا الألمانية سنويا. "جنون الناي" تجربة جاءت صدفةً، ثم تحولت إلى نواة مشروع للموسيقى المعاصرة أقدمه من خلال الناي، وأتمنى تكرار الأمر الذي ما زال قيد التجريب، مع الموسيقى العربية.

حدثنا أكثر عن ملامح هذا الأسلوب الجديد؟
أخذت جملاً من الموسيقى الغربية وعزفتها بطريقة غير تقليدية. يعني، مثلاً، حين أعزف الناي، لا أفكر في أني أعزف، ففي لحظة أقلّد صوت عصفور، وفي أخرى أقلد صوت الماء، وفي ثالثة صوت الغيتار. أحاول بذلك الابتعاد عن الاعتيادي، وكسر روتين العزف، فهو أمر مطلوب جدا في هذا الأسوب الجديد، وهذا حتى يأتي العزف، في كل لحظة، على غير المتوقع. تلك هي الملامح الأساسية لهذا الأسلوب، وهو قيد التجريب. وحاليا أعمل على تطويره عبر الحفلات التي أقدمها مع أوركسترا "تريكستا".

إلى جانب العزف، قدمت مؤلفات موسيقية لآلة الناي، ما الذي يتطلبه الأمر، في رأيك، من العازف، حتى يتقدم إلى هذه العتبة؟
في رأيي الشخصي، ليس ضرورياً أن يكون كل عازف مؤلفا للموسيقى، لكن من يرغب في دخول هذا المجال لا بد أن يمتلك أولاً مخزوناً موسيقياً كافياً ومتنوعاً من الأعمال. وكلما كان المخزون أكبر، كانت القدرة على التأليف أعلى والموسيقى أغنى. ثانياً، لا بد أن يكون العازف على دراية بالقوالب الموسيقية، وهو الأمر الذي تكسبه دراسة التأليف الموسيقي، وتتيح هذه الدراسة كذلك تحليل وفهم التركيب الموسيقي، بالتالي التعلم هو أحد الشروط الأساسية للمؤلف الموسيقي المتميز. ثالثاً، ينبغي أن يمتلك العازف المعرفة التي تسمح له عند كتابة العمل إلى أي اتجاه يمضي، وإلى أي آلة يكتب، وما هي قدرة هذه الآلة ومساحتها الصوتية. وإذا ما كان سيكتب أغنية، فلا بد أن يتوافق لحنها مع المغني الذي سيؤديها. باختصار، الدراسة والعلم والمخزون الشخصي، هي الشروط الأساسية التي لا بد أن تتوافر في أي شخص يرغب في التأليف الموسيقي.

بجانب كونك عازفاً ومؤلفاً، أنت أيضاً أستاذ للآلة في جامعة هيلدزهايم الألمانية، وقبلها درّست الآلة في سورية. ما الذي يهبه مجال التدريس للعازف؟
ليس شرطاً لكل عازف أن يكون مدرّساً. هناك كثير من العازفين المحترفين لا يدرّسون الآلة، لأن التدريس مقدرة تعليمية وتربوية مختلفة، فلا بد أن يمتلك الشخص الدراية والقدرة على إيصال المعلومة. وقد أضاف التدريس لي الكثير، إذ جعلني أكثر قدرة على فهم العزف وتفاصيله، فحين أعطي مثالاً لأحد طلابي كيف يُخرج الصوت ثم أستمع إليه، يصير كالمرآة بالنسبة لي، وبالتالي يساعدني ذلك على تطوير نفسي. كما أن تكرار المعلومات أمر مهم، يذكرني بجميع التفاصيل، ويثبت دوماً المعلومات التي تعلمتها. كل ذلك بالتأكيد يرفع من مستوى أدائي. لهذا، أتصور أن التدريس إضافة كبيرة للعازف، يساعده كثيراً على تطوير قدراته لتكون أعلى من لو كان عازفاً وحسب. 

حدثنا عن مشروعك الموسيقي الأخير، "سحر المقام"؟
"سحر المقام" هو مشروع تقدمه فرقة فتيان بالاشتراك مع أربعة عازفين، واحد للعود وثان للقانون وثالث للترومبيت ورابع للساز. ويصاحب هذه الآلات الغناء التركي. المشروع يوظف الموسيقى المقامية الموجودة في إيران وتركيا والبلدان العربية، ويمزجها من خلال التوزيع بموسيقى الروك الغربية، في محاولة لتقديم تجربة مختلفة، وهو بالكامل من تأليفي، لكن سيكون لكل موسيقي من ضيوفي عمل خاص به، وسأطلق الألبوم من خلال عدة حفلات أقيمها بألمانيا خلال الشهر الحالي، إلى جانب طرحه عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

المساهمون