على خريطة المهرجانات السينمائية الكثيرة، المُقامة في المغرب، هناك قليلٌ منها يجعل من تفرّدها وحميمية الأجواء المُقامة فيها علامة مسجّلة، توضح حرص المنظّمين على خلق هوية منسجمة، تحكم كلّ اختياراتهم.
"المهرجان الدولي لسينما التحريك بمكناس (فيكام)" ـ الذي تُقام دورته الـ19 بين 11 و16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ـ متفرّد على أكثر من صعيد: ثيمته تجعله أول مهرجان متخصّص في سينما التحريك في العالم العربي والقارة الأفريقية، ما يتيح له التموقع على فئة مهمّشة من الجمهور (الأطفال واليافعون)، من دون التنازل عن مكافحة أحكام القيمة، التي تربط فيلم التحريك حصرياً بهذه الفئة. نموذج تنظيمه وتمويله الناجح، الذي يعكس فعالية الشراكة بين القطاع العمومي والشركات الخاصة. تطلّب اختياراته على صعيد احترام الهوية والاعتناء بالتفاصيل، التي يُذكِّر مديره الفني محمد بيوض بأهميتها، في حواره مع "العربي الجديد"، ويكشف ظروف ولادة المهرجان، ومسار تطوّره، وصوغ هويته في 20 عاماً.
مع محمد بيوض، نقاشٌ يتناول أسباب غياب فيلم التحريك الطويل عن منظومة الإنتاج في المغرب، والسبل الكفيلة بتشجيع إنتاجه، ورفع القدرات الفنية للمشتغلين فيه، وخلق سوق لترويجه، بفضل التلفزيون والسينما. بالإضافة إلى طموحاته للدورة 20 في العام المقبل، وسبل تطويره في أفق عشريته الثالثة.
(*) كيف نشأت فكرة مهرجان متخصّص في سينما التحريك بمكناس، وكيف تحقّقت؟
انطلقت الشرارة الأولى عام 2000. كانت الفكرة إنشاء مشروع ثقافي مرتبط بالناشئة، أي الفئة المُكوّنة من الأطفال واليافعين. لاحظنا كفريق، مباشرة بعد التحاقي بالمعهد الفرنسي نهاية 1999، أنّ العروض المخصّصة للناشئة تلقى إقبالاً مهمّاً، في المدارس والعائلات. من هنا نشأت فكرة تأسيس مهرجان موجّه إلى هذه الفئة، وفي الوقت نفسه، يُشكّل رافعة لثقافة السينما في المدينة، لإيماننا بدورها المحوري في التنمية الثقافية.
أحد القرارات الأولى للمهرجان أنْ تحصل الفرجة في فضاءات "المركز الفرنسي" في "حي حمرية"، و"مركز ملتقى الثقافات" في "فندق الحنة"، أحد المنشآت الثقافية التابعة للمجموعة الحضرية لمكناس، الموجودة في قلب المدينة القديمة.
ارتبط المهرجان بهذين الفضاءين منذ نشأته، إذْ كنا حرصاء على تقديم العروض بتقنية 35 مم في "فندق الحنة". أتذكّر أنّ الجيلالي، الزميل التقني في المعهد الفرنسي، أنشأ كابينة عرض حتى يُسمع صوت آلة العرض بطابعه المميز، والمحيل على الحنين، من دون أن يعوق المتفرّجين ويزعج تلقيهم للأفلام. لديّ صُوَر مؤثّرة من هذه الفترة للجيلالي في الكابينة، التي تبلغ مساحتها متراً مربعاً واحداً. كنا نحرص على إيلاء اهتمام كبير لتفاصيل كهذه، لأنّنا نعرف أنّها تطبع عميقاً مخيلة الأطفال. عرضنا 8 أفلام عام 2000، منها "الأميرة مونونوكي" لهاياو ميازاكي. في الدورة الموالية، استضفنا ميشيل أوسلو كأول ضيف للمهرجان في غمرة استعداده لتحقيق "آزور وأسمر". وافق على القدوم إلى مكناس كجزء من بحثه في فضاءات المغرب عن أفكار لتصميم ديكورات ومناخات فيلمه. استلهم، مما اكتشفه في مكناس وفي زيارته فاس، أشياء رائعة حضرت في الفيلم، منها "باب المنصور" في مكناس، وباب القصر الملكي وساحة النجّارين في فاس.
منذ البداية، وضع المهرجان بصمته، ليس فقط على ثقافة سينما التحريك في المدينة، بل بتأثيره في مُبدع مثل أوسلو، أحد الذين أسّسوا نجاح فيلم التحريك الطويل في أوروبا.
(*) كيف تطوّر المهرجان في أعوامه الأولى؟
تطوّر الإقبال على المهرجان تدريجاً، انطلاقاً من الأطفال، ثم العائلات، فالطلبة. هناك معادلة أساسية بالنسبة إلينا، تتمثّل بوضع تصوّر الجمهور قبل العروض. مثلاً، هناك 200 طالب وطالبة، من كلّ أنحاء المغرب، يحضرون المهرجان. العروض والورشات المخصّصة لهذه الفئة تنتبه إلى خصوصيّاتهم وحاجاتهم في التلقّي والتكوين. لذا، أحرص على أنْ أقدّم لهم المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة، وأفلام التحريك التجريبية والطليعية، وفيلم التحريك الوثائقي. هذا الأخير يُقدّم أيضاً في الحصص الموجّهة إلى العائلات. لا أريد قاعات شبه فارغة، كما في مهرجاناتٍ مُقامة في المغرب، حين يبذل بعضهم جهداً محموداً لاستضافة مخرجين مهمّين، يجد نفسه أمام 3 أو 4 أشخاص. لا أريد أن أُحرَج هكذا.
عند برمجة حصّة "ماستر كلاس" مع مخرج سينما تحريك من المدرسة اليابانية، أو من روسيا، أختار يوم السبت. هكذا، يجد المقيمون في الدار البيضاء أو مراكش فرصةً للسفر وحضور الحصة. هذه تفاصيل مهمّة لتنظيم المهرجانات في المغرب. لسنا مهرجان "كانّ"، بجمهوره الهائل، كي نبرمج حصص "ماستر كلاس" مطلع الأسبوع أو في وسطه. في "آنسي" (المهرجان الدولي الأهمّ عالمياً في سينما التحريك)، هناك جمهور المدينة طبعاً، لكن غالبية جمهور "ماستر كلاس" مُكوّنة من مهنيين قادمين من كلّ بقاع العالم، يحرصون على المتابعة طوال أيام الأسبوع وفي الأوقات كلّها.
شاهدتُ، في حصص "ماستر كلاس" يوم السبت في مكناس آباءً قدموا من الرباط ومدن أخرى بعيدة برفقة أبنائهم أو بناتهم الطلبة، الشغوفين بسينما التحريك. هكذا أتيحت لهم فرصة اللقاء بإريك غولدبرغ وسوناو كاتابوشي والراحل إزاو تاكاهاتا.
أعتقد أنّ الحل يكمن في الاشتغال على التفاصيل الصغيرة. في اجتماعات فريق العمل، من "المعهد الفرنسي" و"مؤسسة عائشة"، كنا نناقش التفاصيل الصغيرة المتعلّقة بالعروض، فنحرص على ألّا تتجاوز الأفلام الموجّهة إلى الأطفال، بين 3 و6 أعوام، مدّة 40 دقيقة، أو أنْ تكون مجموعة أفلام قصيرة، حرصاً على تلبية حاجات هذه الفئة، المرتبطة بخصوصية قدرتها على التركيز والانتباه.
(*) ما أبرز الصعوبات التي واجهتموها في طريق تطوير المهرجان؟
أبرز عقبة غياب قاعات العروض. من هنا، تُدرك أهمية أنْ يكون هناك فريق تقني وشركاء في مستوى التحدّي. الجانب التقني أساسي. مدير العروض ينبغي أنْ يكون كفوءاً. أنْ تُهمل الجانب التقني، يعني أنْ تحكم على المهرجان بالموت منذ نشأته. تصوّرنا المهرجان منذ البداية انطلاقاً من منظومة تقنية ولوجستية، تجعل التخصّص والتمكين ضرورتين ملحّتين، منذ الشخص المكلّف فتح الأبواب، إلى من يُقدِّم "ماستر كلاس". عندما تقدّم فرجة لأطفال فضاء "فندق الحنة"، ينبغي أنْ تحرص على أنْ تكون الفرجةُ سينمائيةً حقيقة، مع شاشة كبيرة وآلة عرض ذات جودة عالية، ليتحقّق شرط الإبهار، الذي لا محيد عنه لبثّ الشغف، وزرع بذرة الـ"سينفيلية". العرض على شاشة صغيرة ومع آلة باهتة، في قاعة تغيب عنها كلّ مقومات جودة الصوت والصورة، كما يحدث في ملتقيات عدّة تُهمِل الجانب التقني، أسمّيه "كلّ شيء" غير تنظيم مهرجانات سينمائية. على الفرجة أنْ تكون سينمائية، أو لا تكون. لا تنازل أبداً عندنا عن الجانب التقني للعروض.
هناك أيضاً أفكار جاهزة عن سينما التحريك، لا تزال قائمة، وإنْ بدرجةٍ أقلّ، حتّى في بلد متطوّر سينمائياً كفرنسا، تُربط بموجبها سينما التحريك بجمهور الأطفال حصرياً. لديّ قصاصات مُصوّرة لمقالات صحافية عن "مهرجان القصّة المُصوّرة" في الأعوام الأولى للـ"فيكام". بكل تواضع، أخبرنا صحافيين عن معنى سينما التحريك وأهميتها، كصنف سينمائي قائم بحدّ ذاته. تطلب منا الأمر أعواماً عدّة حتى ننزاح قليلاً عن هذا الخلط، ونؤسّس جمهوراً للمهرجان.
أتذكّر أنّنا، في الدورات الأولى، كنّا نبرمج العروض الموجّهة إلى الجمهور الواسع في السابعة مساءً. عدد الحاضرين يراوح بين 50 و100 متفرّج، لأنّ الآباء كانوا يكتفون بتوصيل أبنائهم إلى مكان العرض. في الدورات الأخيرة، تكاد القاعات تمتلئ بجمهور من الفئات العمرية كلّها، ويقف كثيرون في صفّ طويل لشراء التذاكر، قبل يومٍ على العروض.
أنا ضد المجانية المطلقة، ومع مجانية ذكية. يمكن منح المجانية إلى جمعيات جادّة، أو ملاجئ أيتام، أو أطفال يأتون من مناطق نائية، ليكتشفوا عرضاً سينمائياً ثلاثيّ الأبعاد للمرة الأولى في حياتهم. أما القادر على دفع ثمن تذكرة (20 ـ 30 درهماً مغربياً)، فهو مُطالبٌ بذلك. في الدورة السابقة، بيعت أكثر من 6 آلاف تذكرة خارج جمهور المدارس. هذا رقم كبير في السياق المغربي. ما عدا ذلك، هناك طبعاً صعوبات، كالعثور على تمويل كافٍ يلبّي طموح المهرجان في التطوّر، خصوصاً أنّه يُنظَّم في مدينة تفتقد قاعات عرض مجهّزة. من هنا، تنبع الأهمية القصوى لدعم "المركز السينمائي" لنا، تقنياً ولوجستياً.