تَنَاوُل موضوع الإبادة، أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، في السينما، يكشف محاولات تهدف إلى توثيق حالة أو حكاية أو شخصية، وإلى استعادة فعلٍ يُفترض به ألّا يُنسى، وإلى بحثٍ في ارتكابٍ، فردي أو جماعي، لفعلٍ كهذا، عبر الصورة السينمائية، الوثائقية أو الروائية.
التَنَاوُل، إنْ يكن وثائقيّاً، يواجِه تحدّيات: أيكون ضرورياً، أو مُفيداً (أخلاقياً وبصرياً وثقافياً وفنياً) تقديم صُورٍ، فوتوغرافية أو مُسجّلة، للفعل الجُرمي، بإظهار جثث الضحايا والمقابر الجماعية، مثلاً؟ أمْ أنّ التنقيب في المسألة، ولقاء مرتكبين/ مرتكبات، وضحايا (ناجون/ ناجيات، أو أقارب لهم/ لهنّ)، أفضل وأهمّ، سينمائياً على الأقلّ، وأسلم أخلاقياً؟ ماذا عن الروائي: أيُستَحْسن "تغييب" الفعل الجُرمي المباشر، روائياً، أمْ أنّ ضرورات درامية "ربما" تتطلّب عدم تغييب فعلٍ كهذا، بصرياً؟
البحث في علاقة السينما بالإبادة سؤالٌ مفتوح، والنقاش غير منتهٍ. السؤال تمهيدٌ لتساؤلاتٍ، والنقاش مرتبطٌ بفنّ يريد توثيقاً وأرشفةً، بعيدَين كلّياً عن التسجيل البصري، إنْ يكن التسجيل "فيلماً (شريطاً)"، أو ريبورتاجاً تلفزيونياً.
وقائع جُرميّة والنتيجة واحدة
مُجدّداً، يُعاد طرح السؤال نفسه، كاستكمال لنقاشٍ يبغي، أساساً، تحريضاً على مزيدٍ من تفكيرٍ واستعادة. مُقاربة السؤال الأساسي يُفترض بها أنْ تستمرّ في إثارة تأمّلات نقدية مختلفة، والحاجة مُلحّة إلى قراءةٍ أكثر نقديةً لنتاج سينمائي، يتناول كيفية معاينته، فنياً ودرامياً وتقنياً وجمالياً، للإبادة أو المجزرة، والمجزرة تندرج في عنوان من هذين العنوانين: جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
"طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، دافعٌ إلى قراءاتٍ كهذه. الجُرم الإسرائيلي متفوّق، كثيراً، على لحظة اختراق "الجدار"، الذي يتوهّم الإسرائيلي أنّه (الجدار) حماية له. لحظة الاختراق نفسها محتاجةٌ إلى نقاش نقدي أهدأ، فالحاصل بعدها كارثيّ، مع أنّه يفضح، مُجدّداً، الجُرم الإسرائيلي، الذي "يتفنّن" في إظهار جُرمه، بأساليب مختلفة.
هذه محاولة لمقاربة جديدة، مُحدّدة جغرافياً: في لبنان، مجازر حاصلة في تاريخه، رغم أنّها غير بالغةٍ مرتبة الإبادة الحاصلة في دول ومجتمعات أخرى. مجازر لن تكون أقلّ من فعلٍ، يُمكن اعتباره "جرائم حرب" أو "جرائم ضد الإنسانية"، أو أي وصفٍ، فالحاصل فظيعٌ، والقتل مُرفق بتهجير ناجين/ ناجيات، لتغييرٍ في الجغرافيا والديموغرافيا والمجتمع. ألن يكون هذا كلّه "إبادة"، بمعنى ما؟ أمّ أنّ الجريمةَ جريمةٌ، ولا داعي لفذلكات لغوية وقانونية ومعرفية، فالتوصيف غير مُهمّ، طالما أنْ قتل فردٍ، لأنّ "جُرمه" كامنٌ في اختلافه (في مستويات عدّة) عن "القاتل"، غير مختلف (قتل فرد) عن قتل جماعة، للسبب نفسه، وهذا يندرج في سياق خطر، إنْ يكن جريمة أو مجزرة أو إبادة؟
هل يُمكن اتّخاذ لبنان نموذجاً عربياً لبحثٍ، أو لمحاولة بحثٍ في علاقة السينما بجرائم حربٍ ومجازر، وبعض تلك الأخيرة يقترب من مفهوم الإبادة؟
ليس السؤال ترفاً تنظيرياً. في الوقت نفسه، يُدرك السؤال واقعاً، مفاده أنْ لا إبادات جماعية كبيرة في تاريخ البلد، كتلك الحاصلة في العالم، في تاريخ البشرية، لا قبل إعلان دولة لبنان الكبير (1 سبتمبر/ أيلول 1920)، ولا بعده. رغم هذا، هناك جرائم مُعترف بأنّها مجازر، حاصلة عامي 1840 و1860. الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، شاهدةٌ على مجازر، عدد ضحايا كلّ واحدة منها يتجاوز 200 ضحية ("أفضل" الأرقام، للأسف). التهجير قسراً نوعٌ من أنواع الإبادة، فاقتلاع فرد من بيئته، أي أرضه وما تمثّله تلك الأرض من تاريخ وذاكرة وتراث وعيش وتربية وسلوك وعلاقات وثقافة، لن يكون أخفّ وطأة من موتٍ ناتج عن قتل متعمَّد لجماعة، وهذا كلّه جريمة، أو مجزرة، أو إبادة.
"البداية الرسمية" للحرب الأهلية (15 إبريل/ نيسان 1975)، تتمثّل بمجزرةٍ يرتكبها مقاتلون (حزب "الكتائب اللبنانية") بحقّ 27 فلسطينيّاً وفلسطينيّة مدنيين، يستقلّون باصاً للعودة إلى مخيّمهم في تل الزعتر، مروراً بعين الرمانة (منطقة مسيحية)، بعد احتفال لهم (هناك سابقٌ على هذا بوقتٍ قليل يؤدّي إلى تلك المجزرة). في أعوام الحرب نفسها، يتعرّض مدنيون ومدنيات فلسطينيون (وآخرون) لمجازر، أكثر من مرّة: مخيّم الكرنتينا (18 يناير/ كانون الثاني 1976. نحو ألف قتيل فلسطيني ولبناني). مخيّم جسر الباشا (29 يونيو/ حزيران 1976. نحو 200 قتيل). مخيّم تل الزعتر (14 أغسطس/ آب 1976، بعد حصار وقصف عنيف بدءاً من آخر يونيو 1976. يُقال إنّ هناك 3 آلاف قتيل فلسطيني على الأقلّ).
هذه أمثلة، والأشهر: "مخيّم شاتيلا وصبرا"، (المتَداول يقول إنّ الاسم "مخيم صبرا وشاتيلا"، مع أنّ "شاتيلا" أساس المخيّم) الذي يتعرّض لمجزرة بين 16 و18 سبتمبر/ أيلول 1982، والنتيجة: نحو 3500 قتيل فلسطيني ولبناني. مخيمات فلسطينية، في بيروت تحديداً، تُحاصرها مليشيا "حركة أمل"، أساساً، مع قوى عسكرية مختلفة داعمة لها، في ما يُعرف بـ"حرب المخيّمات"، بأمر من النظام الأسديّ السوري ودعم جيشه (19 مايو/ أيار 1985 ـ يوليو/ تموز 1988، ومراجع عدّة غير ذاكرةٍ اليوم الفعلي لانتهائها. أمّا عدد الضحايا، فيبلغ 3781 قتيلاً، بينهم ألفا فلسطيني. لكنْ، لا أرقام رسمية ثابتة ومؤكّدة، كبقية المجازر غالباً).
أين السينما؟
مجازر أخرى حاصلةٌ في الحرب نفسها، وجغرافيّتها تكاد تغطّي لبنان كلّه، و"مواعيد" حصولها موزّعة على أعوامٍ عدّة منها. مسيحيون ومسيحيات كثيرون يُقتلون، إمّا في مجازر يرتكبها مُسلّحو منظّمات فلسطينية وحلفاء لبنانيين لها، تابعين جميعهم لنظام المخابرات الأسديّ السوري، وإمّا في حروب "الإخوة الأعداء"، أي بين القوى المسيحية نفسها، أو بسبب اعتداءات مسيحية متفرّقة في جبل لبنان ضد الدروز. أبناء طوائف أخرى وبناتها معرّضون، بدورهم، لقتلٍ، فردي وجماعيّ، فالحرب شرسة، والأحقاد أقوى من أكذوبة "عيش مشترك". للغالبية الساحقة من المليشيات، اللبنانية والفلسطينية، مجازرها، والاغتيالات الفردية جزءٌ من حربٍ ضد "أعداء"، وفي "الداخل" أيضاً؛ كالتهجير، أي الاقتلاع.
السينما اللبنانية شبه غائبة عن تلك المجازر، إنْ تكن المجزرة جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، أو إبادة. أليس "شطب" مخيّم كامل من الوجود نوعاً من إبادة، أياً يكن عدد الضحايا؟ إسرائيل، في حروبها اللبنانية، مسؤولة مباشرة عن مجازر بحقّ فلسطينيين وفلسطينيات (وآخرين وأخريات)، كتدميرها مخيّم النبطية في جنوبي لبنان (16 مايو/ أيار 1974)، أي قبل اندلاع الحرب اللبنانية: ألن يصحّ وصف هذه الجريمة بـ"إبادة"، فمعنى "إبادة" يقول إنّها "قتل مُتعمّد لمجموعة كاملة من الأشخاص"؟
يصعب تعداد المجازر، في 15 عاماً فقط. مجزرتا 1840 و1860 ماثلتان في كتب التاريخ، من دون أنْ تعثرا، كبقية المجازر، على مكانٍ لهما في السينما. وثائقيات قليلة تجهد في تبيان وقائع من العنف الأهليّ اللبناني، وفي بعضها تحضر أكثر من مجزرة، أبرزها "شاتيلا وصبرا". والحاصل في "حرب الجبل" (1983 ـ 1984)، يُروى قليلاً للغاية. في وثائقيات أخرى، يُحاوَر مرتكبو حربٍ ومجازر، أو ناجون وناجيات من حربٍ ومجازر.
"سمعان بالضيعة" (وثائقي، 2009)، لسيمون الهبر، يغوص في أحوال "حرب الجبل" تلك مواربةً، إذْ يلتقي المخرجُ عمَّه سمعان، العائد الوحيد إلى قريته (جبل لبنان)، المُهجّرة كلّياً إبّان تلك الحرب. المواربة سينمائية، والفيلم مشغول بحِرفية فنية وجمالية، تُفكِّك بهدوء ذاكرة مُشبعة بموتٍ واقتلاع وخراب وخوف، والخوف مستمرّ، فأفرادٌ قلائل يظهرون أمام الكاميرا من دون أنْ يمتلكوا جرأة الاعتراف باسم "الجلّاد"، الذي يعرفه لبنانيون ولبنانيات كثيرون أصلاً.
"مَقَاتل" (وثائقي، 2005)، للقمان سليم ومونيكا بورغمان وهيرمن تيسن، مختلفٌ في مقاربته مجزرة "شاتيلا وصبرا". العثور على مقاتلين سابقين، يُشاركون فيها، إنجازٌ أول. إقناع بعضهم، على الأقلّ، بسرد الحكاية ـ حكاياتهم، إنجازٌ ثانٍ. توثيق أقوالهم مهمّ للغاية، فكلّ واحد منهم يستعيد ساعاتٍ طويلة من الإجرام متنوّع الأشكال، رغم أنّ المسافة الزمنية بعيدة قليلاً، وتصوير الفيلم سابقٌ على إنجازه بعامين على الأقلّ، وهذا يعني أنّ استعادة الجُرم حاصلةٌ بعد 20 ـ 21 عاماً.
ماذا عن المخطوفين والمخطوفات، أو "المخفيّين قسراً"، والمفقودين والمفقودات، وعددهم نحو 17 ألف شخصٍ، غير مُعلَن، رسمياً، بشكل واضح وصريح، مصير أي واحدٍ منهم ومنهنّ؟ أهذه جريمة فقط، والأسوأ إنْ توصف بأنّها "فعل فردي"؟ أمْ أنّ بلوغ عدد ضحاياها رقماً كهذا، وإنْ في أعوامٍ متتالية، يجعلها نوعاً من مجزرة، أو ربما إبادة أيضاً؟
الأهمّ من التساؤلات كامنٌ في أنّ جُرماً كهذا حاضرٌ في أفلامٍ لبنانية، كـ"مخطوفون" (وثائقي، 1998)، و"شتّي يا دني" (روائي طويل، 2010)، لبهيج حجيج، و"يوم آخر" (روائي، 2005)، لجوانا حاجي توما وخليل جريج، و"طرس، رحلة الصعود إلى المرئي" (2018)، لزياد حلواني، ابن عدنان حلواني، عضو المكتب السياسي لـ"منظّمة العمل الشيوعي"، المخطوف منذ 24 سبتمبر/ أيلول 1982. أفلامٌ توثِّق حالات فردية، وتروي وقائع لن تبقى السينما، كفنّ بصريّ، بعيدة عنها، خاصة في اشتغال حلواني، الذي يستعين برسوم متحرّكة في سرده حكاية شخصية ـ ذاتية، مفتوحة على الجماعيّ.
مخطوفون
يُمكن إدراج "ليال بلا نوم" (2012)، لإليان الراهب، في خانة أفلام المفقودين، رغم انهماكه في مسائل أخرى، تتساوى أهميتها مع ملفٍّ شائك ومُعقّد كملف المخطوفين. فالشخصيتان الأساسيتان مرتبطتان، مباشرة، بهذا الملف: أسعد شفتري، مسؤول أمني سابق في مليشيا "القوات اللبنانية" زمن الحرب الأهلية؛ ومريم السعيدي، والدة الشاب الشيوعي ماهر، "المختفي" في "حرب الشويفات ـ كلية العلوم" (قضاء عالية، محافظة جبل لبنان)، بين تلك المليشيا والقوات الوطنية، في فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982). البحث عن ماهر دافعٌ إلى مواجهة شفتري، الممتنع عن كشف أسرار، رغم أنّه أوّل (وآخِر؟) مسؤول مليشياوي يُعلن "اعتذاراً عاماً" عن أهوال حربٍ يخوضها، وأفعال يرتكبها.
في "بانوبتك" (وثائقي، 2018)، لرنا عيد، تلميحات إلى "أمكنةٍ"، ربما تكون شاهداً على اختفاء مفقودين. لكنّه معنيّ أساساً بسيرة شابّة (المخرجة) في حربٍ أهلية، وعلاقتها بوالدها، الضابط السابق في جهاز أمني لبناني، وعيشٍ ومدينة وسينما. فيلمٌ شخصي منفتح على العام، يسرد بلداً واجتماعاً وحميميات. تماماً كـ"لي قبور في هذه الأرض" (2014)، لرين متري، الذي يبدأ من الذاتي ـ الحميمي، ليقول أشياء موثّقة عن تهجير قسري حاصل في الحرب، بهدف تغيير ديموغرافيا البلد والمجتمع.
المجازر المرتكبة بحق فلسطينيين وفلسطينيات، في مخيّمات لبنانية، يندر اختيارها كمادة لأفلامٍ، توثّق وتروي وتكشف. هذا يختلف عن اشتغال علمي، يتمثّل في أبحاثٍ ودراسات توثّق وتروي وتكشف، بما لديها من مستندات وخبريات يرويها ناجون وناجيات من مجازر مختلفة. الرواية اللبنانية معنيّة أيضاً، رغم ندرتها. مأزق أفلام لبنانية كهذه كامنٌ في أنّ الرقابة الأمنية، ورقابات أخرى، مُصرّة، إلى الآن، على منع بعضها من كلّ عرض تجاري وثقافي، طالما أنّ مخرجيها ومخرجاتها رافضون حذف مشهدٍ أو أكثر.
في مسألة الفيلم الروائي مثلاً، تبرز مشكلة إنتاج وتمويل، من دون التغاضي عن مشاكل أخرى، أبرزها مدى إمكانية الحصول على "موافقة" جهات أمنية وسياسية وطائفية واجتماعية، تُتيح (الموافقة) إنجاز أفلامٍ عن مسائل عالقة في الذاكرة اللبنانية، القريبة زمنياً. مجازر 1840 و1860 تحتاج بدورها إلى ميزانيات، تُصرف على بحثٍ توثيقي علمي، كما على إعادة رسم ملامح تلك الفترة بصرياً، وإنْ بشكلٍ أقلّ من الواقع ("العربي الجديد"، 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023).
هذه أمثلة قليلة من نتاجٍ سينمائي قليل.