"مترو المدينة": بحثاً عن مساحة أكبر للفرح

04 يناير 2023
للجمهور فرصة بأن يكون شريكاً من خلال شراء أسهم (مترو المدينة)
+ الخط -

ليس سرّاً أن لبنان يفتقر إلى شبكة مواصلات عامة، ولكن ليس سرّاً أيضاً، أن في عاصمته بيروت، يوجد مترو يخدم بشبكته الترفيهية كل السّاعين إلى "الفرفشة"، وقد وصل صيت خدماته إلى البلدان العربية المجاورة.
إنه "مترو المدينة"، الذي يقع في قلب شارع الحمرا الشهير، وتحديداً في مبنى سينما سارولا، وهو عبارة عن صالة كباريه وفضاء للعروض الحية. وقد احتفل "مترو المدينة" بعيده الحادي عشر على مدى ثلاث ليالٍ (28، 29 و30 ديسمبر/ كانون الأول 2022)، بعروض متنوعة ("هشك بشك شو"، و"أغاني سرفيسات"، و"عوالم شارع عماد الدين"، و"شادية وحليم"، و"سيد درويش"...). كانت الاحتفالات بمثابة فلاش باك لأبرز العروض التي شهدها مسرح "مترو المدينة" لسنوات، واختتم سنة 2022 مع جمهوره بسهرة رأس سنة في 31 ديسمبر.
لم يكن احتفالاً كاحتفال كل عام، لأن إعلان هذه الحفلات التي أطلق عليها اسم "ليالي الوداع وعيد المترو"، تضمّنت خبر انتقال "مترو المدينة" إلى مكان آخر، أُعلن خلال سهرات الليالي الثلاث الأخيرة، على لسان مديره الفني، ولكن بشخصيته الشهيرة روبيرتو قبرصلي، عندما شارك الجمهور خبر الانتقال إلى مبنى أريسكو بالاس في الحمرا أيضاً.
وعن هذا الانتقال، يقول هشام جابر، المدير الفني لـ"مترو المدينة" إن "الانتقال ضرورة تأتي أولاً بسبب انتهاء عقد إيجار المكان الحالي، والأمر الأهم، حاجة المترو الملحّة للتوسع بعد 11 عاماً من عروض وإنتاجات كبيرة في مكان يتسع فقط لـ 100 كرسي، والمكان الحالي لا تسمح مساحته وتجهيزاته بالتوسع".
خلال سنواته الإحدى عشرة، عُرض أكثر من ألف عمل من مسرحيات وستاند آب كوميدي، وأخرى هزلية وحفلات طربية، كذلك حضرت فرق موسيقية، واستمر عدد كبير من هذه العروض لسنوات، وهو ما يؤكد، وفقاً لجابر، أنّ "بالإمكان قيام مؤسسات مستقلة تماماً واستمرارها من دون دعم مادي من أي جهة، وأن يكون مدخولها حصراً من شباك التذاكر، وبالتالي يكون سبب استمرارها هو إنتاجها الفني الذي يحترم المشاهد بمقابل مادي مقبول جداً".
كان من ضمن التفاصيل المذكورة في إعلانات الحفلات الأخيرة، إعلان وجود بطاقة "دعم النقلة". وهذا الدعم ليس فقط من خلال حضور الحفلات الأخيرة، بل أيضاً من خلال المساهمة المادية بحسب القدرة. لم تبدأ الدعوة للدعم الآن مع ضرورات النقلة، بل منذ بداية الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان، وبدأت بوادرها منذ عام 2018، وبسببها اندلعت انتفاضة 17 تشرين، واستمرت مع جائحة كورونا، ولا تزال تداعيتها متصاعدة بسبب كل السياسيات المالية الفاشلة والفاسدة التي تعاقبت على لبنان.
حينها، كان الدعم متبادلاً من خلال الدفع حسب القدرة، تحت شعار: "قد ما بدك ادفع". وهذه القدرة قد تكون أكثر أو أقل من ثمن البطاقة. واليوم، لدى جمهور المترو فرصة أعلنها روبيرتو قبرصلي (هشام جابر) في الليالي الثلاث، وهي أن يكون شريك أمن خلال شراء أسهم من ضمن 500 سهم ستُعرَض للبيع، بعد تحويل "مترو المدينة" إلى شركة مساهمة. ثمن السهم ألف دولار، 200 من الألف هي الثمن الحقيقي للسهم، أما باقي المبلغ فيمثل اشتراكاً لمدى الحياة في "نادي" المترو، للاستفادة من باقة تُعلَن في موقع خاص موجود على البوست كارد الذي حصل عليه الجمهور.
من أبرز وأشهر العروض التي استمرت لسنوات حتى أيام المترو الأخيرة في موقعه الحالي في مبنى سارولا الشهير، هو عرض "هشك بشك"، بلوحات تحاكي موسيقى وأزياء أفراح وكاباريهات مصر في النصف الأول من القرن الماضي. تقول ياسمينة فايد، إحدى أبرز نجمات "هشك بشك"، إلى جانب عروض أخرى ("متروفون"، و"أغاني سيرفيسات"، و"بار فاروق"، و"ديسكوتيك نانا"، و"شادية وحليم"...) إن أهمية المترو بالنسبة إليها أنه "أعطى الفنانين مساحة للتجارب المختلفة، وأطلق فرقاً ومواهب، والأهم أنه منح الجمهور مشهداً جديداً، وهو المشهد الغنائي الراقص". تضيف فايد: "جمهور المترو، بحسب تجربتي، جاهز أسبوعياً ليخوض معنا هذه التجربة، ولديه القدرة على تمييز ما نقدمه له".


ومن الفرق الفنية التي بدأت مسيرتها الفنية على مسرح المترو، فرقة "الراحل الكبير" في عام 2013، بأغانيها الساخرة واللاذعة، أو باستعادة التراث المصري، قبل أن تتطور العلاقة أكثر مع فرق وفنانين وموسيقيين آخرين، ما أدى إلى "اجتماع طاقات ومواهب أدت إلى خلطات فنية ومشاريع جديدة".
وبالنسبة إلى خالد صبيح، مؤسس الفرقة، فإن المترو "قام بدور وزارة الثقافة من جهة اهتمامه بإحياء التراث، بالإضافة إلى الفنون المعاصرة من خلال العروض المتنوعة، لأنه كان مساحة اختلاط للفنانين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والمصريين، ما أغنى المشهد الفني والثقافي". يرى صبيح أن تجربة المترو سيكتب عنها لاحقاً على أنها كانت "بصمة لهوية بيروت الثقافية في هذه المرحلة".
أطلق "مترو المدينة" مسيرة فنانين منفردين أيضاً، منهم ساندي شمعون التي أدت عروضاً كثيرة، أبرزها أغاني الشيخ إمام (إضافة إلى كونها عضواً بفرقة "الراحل الكبير"). وعن دور المترو في مسيرتها الفنية، تقول شمعون إن تركيبة المترو ومشروعه الذي يتضمن المسرح والغناء والتمثيل، سبب دخولها هذا المجال -لكونها أصلاً خريجة مسرح، لا غناء- ولولاه لكانت حياتها المهنية ستكون مختلفة جداً، وبفضل تجربتها مع المترو توسعت ثقافتها وذائقتها بالموسيقى العربية. وترى "أن المترو هو كل ما يطمح إليه أي فنان مبدع. هو مكان مؤثر ومفتوح على جماهير متنوعة، وغير محصور بجمهور من فئة أو ذائقة أو منطقة واحدة، وهذه أهميته بالنسبة إليّ".
لم تكن عروض المترو منفصلة عمّا يحصل خارجه، فكان ملاذاً لرواده، وانعكاساً لكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية والأمنية أيضاً. من أبرز الإنتاجات في هذا السياق، مسرحية "ما طلت كوليت" لزياد عيتاني (إضافة إلى مسرحية "بيروت ست الدنيا"). يعتبر عيتاني أن "المترو ليس فقط مكاناً للفرفشة، بل هو مساحة حرية واسعة، من دون رقابة". وعن تجربته مع المترو التي توازي نصف عمر مسيرته المسرحية إجمالاً، يقول إن المترو شهد أهم نجاحاته المسرحية: "ومع الوقت، أصبح هذا الفضاء مكاناً لتلاقي الناس ومشاركة الأفكار، ولعرض تجارب ونجاحات، إذ طور المترو العلاقة مع الفنانين المؤدين على مسرحه من علاقة استقطاب فني إلى علاقة عائلية فنية وثقافية".

المترو في سنواته الإحدى عشرة كان مساحة لعرض وتلقي كثير من الأفكار الفنية بأساليب مبتكرة، ما يؤكد إيمان إدارة المترو الفنية باحترام حق المتلقي بمشاهدة أعمال فيها جهد وبحث. في هذا السياق، يقول الموسيقي خالد ياسين، الذي عرض أعمالاً متنوعة في المترو، آخرها "أشكرة"، إن "إدارة المترو أعطت دفعاً معنوياً لأفكار الفنانين من دون حكم مسبق، ما جعلني كموسيقي ومتلقّ منفتح أيضاً على مشاهدة عروض فنية جديدة، وليس فقط تقديمها، فالمترو منح جمهوره فرصة التعرف إلى أشياء جديدة، وأسماء فنانين جدد، وهذا الأمر ملهم ومستفز للعمل، لأنه سمح بتعددية ليس فقط لجهة ما يقدّم، بل لجهة تنوع الجمهور".

الأرشيف
التحديثات الحية

مع بداية 2022، أطلق "مترو المدينة" مشروعاً يحمل اسم "مترو المهنية" لاكتشاف المواهب وتنميتها، وهو عبارة عن ورشة فنية ضمت سبعة أشخاص، اختيروا من أصل 120 متقدماً. استمر القسم الأول من الورشة لمدة تسعة أشهر، تضمّن تدريبات من قبل مختصين في الرقص والموسيقى والغناء لثلاثة أيام أسبوعياً، بمعدل تسع ساعات يومياً. سيستمر التدريب بقسمه العملي للأشهر التسعة المقبلة، وبختامه يكون المترو قد جهز هذه المواهب لتنضم إلى عالمه بمحطاته الملونة والمتنوعة.
يودّع جمهور "مترو المدينة" فضاءه مؤقتاً، على أن يعود عند الربيع... وكما يأمل خالد صبيح، فإن "المترو يمشي عكس السير، وحيث كل شيء يصغر من حولنا، المترو لازم يكبر".

المساهمون