دورة مهرجان آذار الموسيقي البرليني الأكثر فرادةً MaerzMusik (مارسموزيك)، أُقيمت الشهرَ الماضي بإدارة مصرية، ما زاد الفرادة فرادة. كاميلا متولي (39 عاماً)، كاتبة وباحثة في الموسيقى، مؤلفة إلكترونيات ومنظّمة للأحداث الفنية، تولّت بالتعاون مع المؤلف وقائد الأوركسترا الألماني الحداثي إينو بوبه (Enno Poppe)، الإعداد والإشراف على ما يمكن وصفها بأنها الدورة الأولى لحقبة ما بعد كورونا.
قبل "مارسموزيك"، نشطت متولي ضمن المشهد الموسيقي المصري المعاصر. إذ إنها إبان العشرية الأولى من القرن الحالي، كانت قد أسست لإصدار مطبوعة في العاصمة القاهرة تعنى بالثقافة والفنون، علاوة على عملها ضمن ميدان الراديو والسينما المصرية المستقلة. خلفيةٌ قد أهلّتها لمد المهرجان برؤية ونهج، عساهما أن يشكلا نقاطَ مقابلة (Counterpoints) تتحدى السيرورة والكيفية التي أنتجت الموسيقى الغربية ضمن المجال الجيوثقافي اليوروأميركي، إبداعاً واستماعاً.
في الجوهر، ذلك ما ميّز الشكل والمضمون المراد سياسياً لـ"مارسموزيك". هو بمثابة حدث موسيقى يتحدى الأذن ويوقظها من رتابة العادة الثقافية. بهذا، إنما هو راية من بين الرايات ذات الشعارات السياسية الثقافية التي ما انفكت تُرفع في العاصمة الألمانية منذ توحيد شطريها بُعيد انتهاء الحرب الباردة، لكي يراها العالم معقلَ حراك ليبرالي تقدمي يتأول العولمة، ليس على أنها حرية تجارة وتقانة باتت تربط المجتمعات بعضها ببعض، وإنما أيضاً مسعى فكري وعملي نشاطويّ لتأسيس عالمية جديدة (Universalism) ما بعد حداثية، تطمح إلى أن تكون في الظاهر، على الأقل، أقل مركزية غربية وأكثر استيعابية (Inclusive).
من هنا وفي سياق الموسيقى، راج في الآونة الأخيرة استدعاء فكر وفن المؤلفة الموسيقية المعاصرة، بولين أوليفيروس Pauline Olivaros (1932-2016)، الذي تمحور حول مفهومية الاستماع كفعل واعٍ وأداة تحرر ثقافي. إذ عقد المهرجان نَصباً فنياً (Installation) بعنوان "مساحة حدودية، سَماع" (Grenzraum HÖREN)، كان بمثابة دراسة جمعية للسماع والفضاءات التي تتشكل إثر توسيع مجاله بما يعنيه ويقتضيه.
تمحور الحدث حول عمل أوليفيروس الأشهر "تأملات صوتية" (Sonic Meditations)، الذي يوكل إلى مجموع المستمعين مهمة التفوّه بأصوات ممتدة لها أن تراوح ما بين الهمهمة والغناء، لا على تعيين الطبقة الصوتية أو النغمة، تتداخل بعضها مع بعض لتشكل نسيجاً نغمياً متوالداً بصورة غير خطية (None linear)، متحوّل المعالم والأطوار، له أن يستمر إلى أن ينقطع من تلقاء ذاته.
في حديث أجرته معها دورية Oncurating المعنية بشؤون تنظيم العروض الفنية في النظرية والممارسة، سبق لمتولي أن وضّحت رؤيتها لفعل السماع قائلة: "ثمة فرق جوهري ما بين حالتي السماع والاستماع"، استلهاماً لمسعى أوليفيروس بشكل أساس في اشتغالها على "ممارسة الاستماع العميق والمزيد" (Deep and extensive listening practice)، بالإضافة إلى النظر للاستماع من حيث كونه أداة والتمييز وكشف المغالق ما بين الحالتين. في الأولى، إنما هي الحاسة الفيزيائية اللاطوعية، أما الثانية فتتمثل بذاك الفعل الناتج عن الصيرورة الذاتية، المدربة والموجهة بموجب الثقافة السائدة والراسخة. تكلمت أوليفيروس عن الاستماع أنه مجال من تركيز الانتباه، ونحن مهتمون بتلك المساحة من الانتباه، إذ إننا نريد الدفع إلى التوقف عن السماع الآلي والبدء بالاستماع الواعي ومن ثم استخدام فعل الاستماع كأداة في سبيل تفعيل سُبلٍ للحوار".
تعدّ الموسيقى المنتجة إلكترونياً، سواء بطريق المُركّبات الكهربائية (السينثسايزر)، أو الحواسيب، إحدى الوسائل الأكثر رواجاً وسهولةً في الاستخواذ داخل الدوائر النشاطوية التي تنادي بتغيير العادة السمعية السائدة الراسخة ثقافياً واجتماعياً. المفارقة أن وسيطاً تعبيرياً يعتمد تقانةً أنتجها وطوّرها الغرب اليوروأميركي، تماماً كما أنتج وطور الآلات التقليدية من قبلها، صارت اليوم أداة تقدمية لتقويض الهوية الصوتية للموسيقى الغربية اليوروأميركية، بدعوى أنها صدى التاريخ الكولونيالي والتمركز العرقي حول اللون الأبيض.
انطلاقاً من هنا، يُفرِد مارس موزيك مساحة خاصة ورحبة للموسيقى الإلكترونية، سواء بتداخلاتها مع الموسيقى الأكوستية (التصويتية، Acoustic)، أي تلك التي تُصدَر بوسائل غير كهربائية أو رقمية، كالعزف على الكمان أو الناي، أو في مزاوجتها بوسائط تعبيرية أخرى، كنُصُب Installations الفن المفاهيمي المعاصر، تلك المرئية منها عن طريق التشكيل في الفراغ وعروض الأفلام، أو المجسدة أدائياً من خلال جنس البرفورمانس (Performance).
يبقى الأثر الإلكتروني الخفي الأكثر حسماً، والآلة ذات الدور الأشد أهمية كما اليوم، كما يتبيّن للأذن المراقبة سواء من خلال عروض مارس موزيك، أو غيرها من الحفلات الموسيقية في الزمن الراهن، هي الميكروفون.
فالتقدم التقني الهائل الذي أحرزته وسائل تكبير الأصوات وتضخيمها، ومن ثم معالجتها الآنية من قبل أطقم هندسة الصوت، باتت تشكل عاملاً أساسياً، غير معلن في الغالب، في إنتاج الموسيقى المعاصرة وأدائها حيّة. ذاك أن مستويات الدقة سواء في حجوم الميكروفونات والمكبرات وحساسية الصوت التي باتت تنقله من الآلة الموسيقية إلى أذن المستمع في الصالة، ومن ثم الوسائل في معالجته هندسياً، كلها باتت على درجة من الكفاءة بحيث أصبحت مكوناً جمالياً لا غنى عنه في إحياء تجربة الخلق، الأداء أو الاستماع الموسيقي.
يتجلّى ذلك أيما تجلّ في ما بات يعرف بموسيقى العصر الجديد (New Age Music)، التي تعتمد مقاربة مادية للمنتوج الموسيقي منزوع النغم ذي الحمولات العاطفية والفكرية، محوّلة إياه إلى شبه بيانات أو إشارات سمعية تنشط بمعظمها ضمن المجال الذهني، الشعوري وما تحت. فمن دون حساسية الجيل المتقدم من المكروفونات، لن يُمكن التقاط الإشارات والبيانات المتناهية لجهة اللون والنبرة الصوتية.
خير شاهد على هذا، كان عرض للمهرجان قدمته الموسيقية الإيطالية أغنيس تونيوتّي (Agnese Toniutti)، بمصاحبة فرقة موزيك فابريك (Musikfabrik)، مساء 24 من مارس/ آذار. إذ قامت تونيوتّي بتحويل آلة البيانو الأكوستية إلى أشبه بمركِّب إلكتروني للعيّنات الصوتية، لتصدر عنه مؤثرات صوتية فريدة ومبتكرة، لم يكن ليتسنى لها في الواقع ولوج آذان المستمعين ومن ثم وجدانهم عن تلك المقربة، لولا نجم الأمسية الحقيقي والخفي، ألا وهو الميكروفون.