تعتمد بنية "باي باي طبريا" (2023) للينا سويلم، المؤثّر بصدقه وذاتيّته، على جمالية لوحة البازل، التي تُركَّب قطعها الواحدة تلو الأخرى، من خلال القصص الصغرى لنساء من أربعة أجيال، ينتمين إلى عائلة واحدة، تُكوِّن الحكاية الكبرى لأرض فلسطين. اللافت للانتباه، في سرد الفيلم، أنّ كلاً من شخصياته تحمل إليه بُعداً مختلفاً، يعطي لمحة عن وجهٍ مختلف للمأساة المركّبة للشعب الفلسطيني، كالخالة الكبرى التي عاشت وماتت في مخيم اليرموك للاجئين في سورية، حاملةً معها مأساة اللاجئين الفلسطينيين إلى فسيفساء الفيلم.
انطلاقاً من الجدّة الكبرى أم علي، التي عاشت النكبة والترحيل القسري من طبريا إلى دير حنا، وصولاً إلى المخرجة، التي تعيش حالة اغتراب هوية وشتات روحي، مروراً بالجدة الصغرى نعمت، التي ظلّت تحلم باجتماع شمل عائلتها الكبيرة، والأم هيام عبّاس، التي تحضر أمام كاميرا ابنتها مُشكّلة الخيط الناظم الذي ينقلنا من قصة إلى أخرى، لتحكي قصة التمزّق الذي عاشته بسبب حرصها على اتباع شغفها بالتمثيل، رغم اعتراض محيطها.
تتوفّق لينا سويلم في تفادي سؤال اللعب، بمعنى "تأدية دور"، الذي لا يمكن ألّا يُطرح أمام الحضور الطاغي لعبّاس، بفضل حيلة "اللعب" بمعناه الطفولي، حين لا تخجل من "الفشل البيّن" لتمرين تصوير مقاطع، تسعى المخرجة عبرها إلى إعادة تصوير لحظات فارقة من مسار أمها، كتقدّمها إلى معهد التصوير خفية عن أهلها، أو مصارحتها والدها بنيتها الزواج من أجنبي "غير مسلم"، أو بفضل لحظات هزل خفيف تجمع عبّاس بأختها.
وثائقي سويلم رحلة في الزمان والمكان، تنطوي على معانٍ عميقة عن الهوية والإرث الثقافي، وكيفية تمرير الشاهد في العائلة، وارتباطه بذاكرة الأماكن، لعلّ جملة "الناس هم أرواح الأمكنة" ـ التي تنطقها عبّاس بعينين مغرورقتين بدمع عند حلولها بعد سنوات طويلة من الهجران في منزل والدتها ـ أكبر مُعبِّر عنه. إنّها أيضاً لفتة إنسانية، تروم إحياء ذاكرة الشعب الفلسطيني ضد قوى الطمس والبطش، وتحمل شحنة عاطفية مؤثّرة، خاصة في ظلّ الوضع الراهن الصعب، والعدوان الإسرائيلي الوحشي المتواصل على قطاع غزّة والضفة الغربية.
فاز "باي باي طبريا" ـ الذي يمثّل فلسطين في اللائحة الأولى لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي طويل غير ناطق بالإنكليزية (تُقام النسخة الـ96 في 10 مارس/ آذار 2024) ـ بجائزة لجنة تحكيم الدورة الـ19 (24 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 4 ديسمبر/ كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، مناصفة مع "عصابات" للمغربي كمال الأزرق. قبل الجائزة، التقت "العربي الجديد" لينا سويلم وهيام عبّاس في هذا الحوار.
(*) انطلقتِ من القصص الصغيرة لتتحدّثي عن القصة الكبيرة لطبريا؛ ومن ناحية أخرى تاريخ فلسطين. هل كانت هذه الفكرة واضحة منذ البداية، أم أنّك وجدتها في تطوير المشروع؟
لينا سويلم: خطّطت منذ البداية أنْ أروي حكاية العائلة، ومن خلالها أروي بالضرورة قصة أكثر جماعية. كان في نيتي أنْ أروي قصصاً عن نساء عشن في سياق سياسي وتاريخي مُعيّن، في أماكن كانت بدورها عرضة للتّحول، وأردت أيضاً تسليط الضوء على رحلة هؤلاء النساء اللواتي كنّ قادرات على اتّخاذ قرارات، كان لها تأثير كبير على من حولهنّ. كنّ سيّدات مصائرهنّ فيما لم تكن لديهنّ المفاتيح المناسبة للتصرّف.
في الوقت نفسه، أردتُ أنْ أعرف كيف أثّرت تحوّلات المناطق والسياق السياسي على القرارات الحميمة لهؤلاء النساء، وواقع حالهنّ، في رحلتهنّ ومعاناتهنّ وأحزانهنّ. كلّ هذه الطبقات كانت دائماً موجودة في نيّتي، لكنّي لم أكن أعرف كيف سأفعل ذلك. لم أكن أعلم إنْ كنت سأنجح، لأنّ الكتابة استغرقت نحو 6 سنوات، بين الانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن صُوَر أرشيفية من التسعينيات إلى صُور اليوم، ومن الأصوات المُسجّلة إلى الحوار المباشر. هناك، حقاً، كتابة استغرقت وقتاً لتجميعها، ولتأخذ موضع التنفيذ، أعتقد أنّها اشتغلت وفق منطق الصدى، لأنّ مَردّ وجود صُور غير مُتجانسة، مقبلة من مصادر متنوّعة وخطوط زمنية مختلفة، أنّها كلّها تتصدّى لأسئلة حميمة جداً أطرحها فيَّ، لا بغرض التنميق أو الأسلوبية.
(*) هل كانت ترجمةً لاهتمامٍ وجداني وجمالي أيضاً؟
لينا سويلم: شكّلت نوعاّ ما جواباً على سؤال: كيف نحكي قصصنا حين يقع تاريخنا تحت سطوة المحو، وتُبعثر ذاكرتنا، ونعاني نقصاً في الصُور.
(*) تحدّثتِ عن أشياء خصوصية في مسارك وعلاقاتك العائلية، في فيلمٍ يُشكّل وثيقة عن ذاكرة الأماكن والأشخاص. أتصوّر أنّ ذلك لم يكن سهلاً.
هيام عبّاس: فعلاً. فالفيلم، لأنّه وثائقيّ، يُجبرك في خضمّه ومضمونه على أنْ تنفتح. إذا ظللت في نصف الطريق، مع قدم في الخارج وأخرى في الداخل، لن تكون صادقاً لا مع نفسك، ولا مع القصة، ولا مع الرسالة التي تودّ المخرجة التطرّق إليها. في البداية، لم يكن الأمر هيناً: أنْ أفتح قلبي للكاميرا، وأحكي عن قصصي الشخصية. لكنّي فهمت من لينا أنّها أرادت فتح محلات مُعيّنة في ذاكرتي، لا لتحكي قصة هيام عبّاس، بل قصص النساء اللواتي أحضرن إلى العالم هيام عبّاس وربّينها، ودفعنها إلى أنْ تكون إحدى شخصيات الفيلم، طبعاً عبر نظرة ابنتي التي تتناول قصتي، ومنها تصعد إلى قصة أمي نعمت، ثم قصة جدّتي أم علي، ولا ننسى المرور على مرحلة الخالة الموجودة في مخيم اليرموك كلاجئة فلسطينية، وتنتهي بالموت هناك.
الفكرة لم تعد شخصية، منذ الوقت الذي فهمت فيه أنّي جزء من مجموعة. يُحكى كثيراً عن فلسطين من وجهة نظر الرجال، بحكم أنّهم مُشاركون في النضال والحرب. لكنّ لينا ارتكزت على رؤية نسائية لأجيال النساء التي ورثت منهنّ جانبها الفلسطيني (والدها زين الدين سويلم فرنسي من أصل جزائري، تناولت ذاكرته في أول وثائقي طويل لها، "جزائرهم" ـ المحرّر).
(*) يقول ألبرتو كافالكانتي إنّه، كي نروي قصة مكتب البريد، يُحبَّذ اتّباع مسار الرسالة. أتخيّل أنّ الصعب في سرد الفيلم كامنٌ في تجميع المسارات الفردية للنساء، لحكي القصة الكبرى. كيف عملتِ مع شريكتِكِ في كتابة السيناريو على الإيقاعات والانتقالات لضمان سلاسة القصة وتماسكها؟
لينا سويلم: في الواقع، عملت مع الكاتبة المشاركة نادين نعوس، والمُولّفة غلاديس جوجو، التي تعاونت معنا في الكتابة، لأنّنا في الأفلام الوثائقية نكتب كثيراً في المونتاج أيضاً، كما تعلم. بدأت الكتابة مع نادين، ونحن نشاهد الأرشيف، وندوّن الأشياء المؤثّرة فينا، ونحاول العثور على صداها في الوقت الحاضر، مع تسجيل ملاحظاتي والأسئلة التي تدور في ذهني أثناء النظر في هذه المحفوظات. ثم تواصلت مع غلاديس لوضع الهيكل، والتفكير في كيفية ربط هذه القصص بعضها ببعض، ذهاباً وإياباً. كما أجرينا، نحن الثلاث، جلسات نقاش كثيرة، وقرأت مُفصّلاً عن الموضوع في الوقت نفسه، وتمعّنت في صُور، ودوّنت أسئلة عدّة طرحتها على نفسي.
سألت والدتي كثيراً، وسجّلت الأسئلة والأجوبة، ساعيةً إلى التفكير في ما كنت أبحث عنه بالضبط، وفي ما يتيح في إجاباتها تحقيق الربط مع قصص عائلية أخرى. كان هناك أيضاً وازع أنْ نكون حذرات دائماً، وألّا نقع في فيلم بورتريه عن والدتي، كممثلة أو كامرأة، بل أنْ يكون قصة امرأة بين سلالة من النساء. هكذا، يتعلّق الأمر حقاً بالعثور على الأصداء بين قصصنا كلّها، التي تتيح لنا الوجود معاً في فضاء خيالي، يسمح لنا الفيلم ببنائه.