أطلقت روسيا، اليوم الجمعة، أول مسبار إلى القمر منذ حوالى 50 عاماً، في مهمة تهدف إلى إعطاء زخم جديد لقطاعها الفضائي المتعثر منذ سنوات، والمعزول بسبب النزاع في أوكرانيا. كان من المخطط انطلاق المهمة غير المأهولة هذه إلى القمر عام 2015، ولكن تأجلت الخطوة مرات عدة.
إطلاق المسبار لونا-25 هو أول مهمة فضائية لموسكو منذ عام 1976، حين كان الاتحاد السوفييتي رائداً في استكشاف الفضاء. لكن هذه الريادة تلاشت بسبب مشكلات في التمويل وفضائح فساد.
وجرت عملية الإطلاق من المطار الفضائي "فوستوتشني"، الواقع في مقاطعة آمور في الشرق الأقصى الروسي، وهو المطار الفضائي المدني الوحيد في روسيا. وتستأجر موسكو مطار "بايكونور" الفضائي في كازاخستان.
ونفذت عملية الإطلاق بواسطة صاروخ "سويوز-2.1 بي"، على أن تنقل وحدة التسريع "فريغات" محطة "لونا-25" خلال خمسة أيام إلى المدار القطبي للقمر على ارتفاع مائة كيلومتر، حيث ستقضي ما بين ثلاثة وسبعة أيام أخرى لتحديد الموقع المناسب للهبوط.
Off to the Moon! Russia’s interplanetary station Luna-25 spacecraft blasts off from Vostochny cosmodrome
— RT (@RT_com) August 11, 2023
Details: https://t.co/ifaoiu5pfF pic.twitter.com/NWwRODHonK
ومن المخطط هبوط المحطة في محيط القطب الجنوبي للقمر، خلال الفترة بين 21 و24 أغسطس/ آب الحالي. وبعد الهبوط، ستعمل المحطة على سطح القمر لمدة عام.
ويتوقع الكاتب والصحافي العلمي والباحث في تاريخ الملاحة الكونية، أنطون بيرفوشين، أن يشكل إطلاق "لونا-25" نقطة الانطلاق لعودة روسيا إلى مجال الملاحة الأوتوماتيكية الكوكبية، موضحاً أن بحوث المهمة الراهنة ستتركز على دراسة الجانب الخلفي للقمر ومناطقه القطبية، على إثر توفر التكنولوجيا المتقدمة اللازمة لذلك اليوم.
ويقول بيرفوشين لـ"العربي الجديد": "منذ إطلاق جهازي فوبوس-1 وفوبوس-2 إلى الفضاء عام 1988، لم تسجل بلادنا عمليات ناجحة جديدة لتشغيل محطات كوكبية. في غياب مشاريع عملاقة، بدأ انهيار الروابط الإنتاجية بين المنشآت المصنعة للمعدات الفضائية، وسط توقف تطور العلوم الفضائية الروسية. إلا أن إشراك الموارد والكوادر في البرنامج الجديد لاستكشاف القمر سيتيح إعداد علماء وخبراء فنيين من الشباب سيكتسبون خبرة فريدة من نوعها".
ويعتبر أن روسيا، الرائدة في مجال الملاحة الكونية المأهولة إلى محطة الفضاء الدولية على مدار الأرض، حان وقت عودتها إلى الملاحة الكوكبية. ويضيف: "ستهبط محطة لونا-25 في محيط القطب الجنوبي للقمر الذي لم يصل إليه أحد بعد. سيشكل ذلك سبقاً تاريخياً للعلماء الروس لا يقل عن إنجازات العهد السوفييتي. في حال نجاح المهمة، سيليها إرسال محطات أخرى من سلسلة لونا، ستتيح لروسيا ترسيخ وجودها في أقرب جسم فضائي إلى كوكبنا".
وحول رؤيته لأسباب تأخر البشرية في استكشاف القمر، يشرح قائلاً: "أسفرت رحلات رواد الفضاء الأميركيين على متن مركبات أبولو، والبحوث التي أجريت بواسطة المسابر والمحطات السوفييتية، عن جمع كمية ضخمة من البيانات حول القمر لم تتسن معالجتها بشكل كامل بعد. ومن وجهة النظر العلمية، كانت البيانات المتوفرة كافية لوضع نماذج لتطور القمر وهيكل أعماقه وتركيبتها الكيميائية. لكن بعد تطوير معدات علمية من الجيل الجديد، ازدادت الجهود الرامية إلى استكشاف السطح الخلفي من القمر والمناطق القطبية التي قد تحتوي على جليد جلبته مذنبات".
ويشير بيرفوشين إلى إمكانية بدء إقامة ميدان تجارب للمعدات الفضائية على سطح القمر، في إطار الخطط لغزو الفضاء الكوني البعيد وبعثة سترسل يوماً إلى المريخ.
ومع ذلك، يقرّ بأن العقوبات الغربية على روسيا، على خلفية النزاع في أوكرانيا، زادت من صعوبة عمل العلماء والمصممين الروس، قائلاً: "وُضع البرنامج العلمي لمشروع لونا-25 والمحطات المستقبلية بمشاركة شركاء أجانب، ولكن تبين أنه يمكن العمل من دونهم. الدولة التي تتبع سياسات مستقلة في مجال الفضاء يتعين عليها أن توفر لنفسها الدورة الكاملة لإنتاج المحطات الكوكبية، وروسيا ماضية في هذا الاتجاه، كما أنني أثق بأن العلماء الروس سيشاركون العالم اكتشافاتهم على القمر".
ومن اللافت أن الفضاء لا يزال من بين القطاعات المعدودة التي لم ينقطع فيها التعاون بين روسيا والغرب، حيث يواصل رواد فضاء روس وأميركيون أداء المهام على متن محطة الفضاء الدولية التي يقترب عمرها من ربع قرن.
ويعود بدء الاتحاد السوفييتي والبشرية باستكشاف القمر "عن قرب" إلى سبتمبر/ أيلول 1959، حين هبطت المركبة الفضائية السوفييتية "لونا-2" لأول مرة على سطح القمر، ولكن الاتصال اللاسلكي انقطع في منطقة بحر الصفاء بالقرب من فوهة "أرخميدس".
وفي الأشهر والسنوات اللاحقة، أطلق الاتحاد السوفييتي سلسلة من مركبات غير مأهولة أخرى من مشروع "لونا"، وفرت كمية هائلة من البيانات والصور ومقاطع الفيديو حول الثرى القمري وطبيعة الفوهات والأحجار، بالإضافة إلى عربتي القمر ذاتيتي الحركة "لونوخود-1" و"لونوخود-2" اللتين هبطتا إلى القمر في بداية السبعينيات، متوجتين الفكر الهندسي السوفييتي.
ونفذ الاتحاد السوفييتي آخر مهمة أوتوماتيكية إلى القمر "لونا-24" عام 1976، وجلبت إلى الأرض 170 كيلوغراماً من الثرى القمري أسفرت دراسته عن خروج العلماء بفرضية مفادها أنه قد يحتوي على نسبة 0.1 في المائة من المياه.
وفي الوقت الذي لم ينفذ فيه الاتحاد السوفييتي رحلات مأهولة إلى القمر، على غرار تلك التي قام بها رواد فضاء أميركيون، إلا أن ثمة إجماع بين العلماء على أن المركبات الفضائية الأوتوماتيكية تساهم في تطوير علم الفلك والأستروفيزياء واستكشاف الكون والمنظومة الشمسية، بما لا يقل عن إسهام الملاحة الكونية المأهولة.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وعد بمواصلة برنامج الفضاء الروسي على الرغم من العقوبات الغربية، مستذكراً أن الاتحاد السوفييتي أرسل أول رجل إلى الفضاء عام 1961، وسط تصاعد التوتر بين الشرق والغرب.
وقال بوتين متحدثاً في فوستوشني العام الماضي: "نحن نسترشد بطموح أسلافنا للمضي قدماً، على الرغم من الصعوبات والمحاولات الخارجية لمنعنا من القيام بذلك".
ويعد قطاع الفضاء مصدر فخر كبير لروسيا، فالسوفييت أطلقوا أول قمر اصطناعي هو "سبوتنيك"، وأرسلوا أول حيوان هي الكلبة لايكا إلى مدار الأرض، ثم أول رجل هو يوري غاغارين، وأول امرأة هي فالنتينا تيريشكوفا. ولكن الولايات المتحدة تفوقت على الاتحاد السوفييتي بإرسالها أول رجل هبط على سطح القمر، هو نيل أرمسترونغ، في يوليو/ تموز 1969.