19 يوماً من دون نوم.. لماذا توقفت موسوعة غينيس عن تسجيل أخطر أرقامها القياسية؟

05 فبراير 2023
حاول راندي غاردنر تحطيم الرقم بلا منشطات (يوتيوب)
+ الخط -

ما هي أطول مدة يمكن للإنسان البقاء مستيقظاً خلالها؟ سؤال قدمت موسوعة غينيس العالمية للأرقام القياسية مقاربات للإجابة عنه من نهاية الخمسينيات حتى ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تعلن وقف تسجيل أحد أخطر أرقامها على صحة المتنافسين، وذلك بعد تسجيل رقم يقارب الـ19 يوماً للاستيقاظ من دون نوم.

ففي يناير/كانون الثاني من عام 1959، أدرجت الموسوعة بيتر تريب كأول اسم في سجل أطول مدة بقاء من دون نوم، بواقع 200 ساعة (8.3 أيام)، ويشير أرشيفها إلى أن عدداً من الأطباء راقبوا فترة يقظة تريب لفحصه وإجراء التجارب النفسية عليه.

واكتشف الأطباء بعد يومين عدداً من الأعراض الدالة على تدهور الصحة، إذ بدأت تتراءى لتريب هلاوس بصرية، مثل أن يرى في حذائه خيوط عنكبوت غير حقيقية.

وبعد مضي 100 ساعة، ضعفت ذاكرة تريب وبدأ يجد صعوبة في حل المسائل التي كانت بسيطة بالنسبة له، وتزايدت هلوساته حتى رأى مكتب الفندق الذي يسكن فيه يحترق، وهو ليس كذلك.

وحين بلغ تريب 170 ساعة من دون نوم، بلغت المأساة ذروتها، إذ بدأ في الاعتقاد بأنه ليس هو، حتى إنه كثيراً ما كان يتحقق من هويته. وبالرغم من أن تصرفاته دلّت على أنه يقظ، إلا أن الموجات الكهربائية في دماغه كانت تشبه موجات النائم.

ستينيات الغموض 

في عام 1964، حاول طالب المرحلة الثانوية راندي غاردنر، البالغ من العمر 17 عاماً آنذاك، تحطيم الرقم القياسي من دون أن يتعاطى أية منشطات، بل تناول فقط مشروب كوكاكولا المحتوي على الكافيين المنبه، واعتاد سماع الموسيقى الصاخبة والاستحمام بالماء البارد، ليتمكن من تحقيق هدفه بعد البقاء مستيقظاً مدة 264 ساعة (11 يوماً).

وفي الأيام الثلاثة الأخيرة، راقب طبيب يدعى ديمنت حالة غاردنر، وأبقاه مشغولاً بأنشطة عدة، على رأسها لعب كرة السلة في أوقات الليل المتأخرة.

ورغم قلة نومه، فاز غاردنر في كل مبارياته، وأدّت حالته الذهنية المتماسكة على ما يبدو إلى تراجع ديمنت عن ادعائه السابق بأن الحرمان من النوم يؤدي حتماً إلى الذهان، وهو ما قرّره بعدما راقب بيتر تريب قبل 5 سنوات.

ولخص ديمنت نتائج ملاحظته لغاردنر بقوله: "أستطيع أن أقول بكل تأكيد إن البقاء مستيقظاً مدة 264 ساعة لم يسبب أي مشاكل نفسية على الإطلاق".

ومع ذلك، هذا لا يعني أن غاردنر لم يعانِ من أي آثار سلبية، إذ لاحظ ديمنت تأثر قدراته الخاصة بالتحليل والإدراك والذاكرة والتحكم الحركي بدرجات متفاوتة.

كما لاحظ الطبيب جون روس، الذي كان يراقب غاردنر قبل وصول ديمنت، أعراضاً أكثر حدة بحلول اليوم الرابع، إذ عانى غاردنر من بعض الهلاوس السمعية والأوهام البصرية وقصور الانتباه الشديد.

وفي روايته لذكريات الحدث، قال غاردنر، خلال ظهور إعلامي نادر في البودكاست العلمي Hidden Brain (الدماغ الخفي): "بدأ ذلك ربما في اليوم الرابع أو الخامس، واستمر في الانحدار. كان الأمر جنونياً حيث لا يمكنك تذكر الأشياء. كان الأمر أشبه بمرض ألزهايمر المبكر بسبب قلة النوم".

لم يعانِ غاردنر من آثار طويلة الأمد، لكنه أصيب بالأرق وهو في الستينيات من عمره، وهو ما عبّر عنه بالقول: "كنت أستلقي في السرير مدة 5 أو 6 ساعات، وربما أنام 15 دقيقة وأستيقظ مرة أخرى. ظللت أفكر وأقول: سيتغير هذا؛ لأنه يبدو لي في النهاية أنه إذا لم تحصل على قسط كافٍ من النوم، فسيقول جسدك فقط: نحن ذاهبون للنوم. لكن هذا لم يحدث".

وبعد معاناته من الأرق عقداً من الزمان، استعاد غاردنر في النهاية قدرته على النوم، وإن كان ذلك لحوالي 6 ساعات فقط في الليلة.

وبعد أسبوعين فقط من تسجيل غاردنر الرقم القياسي لمدة التوقف عن النوم، تمكن طالب آخر من كاليفورنيا يبلغ من العمر 20 عاماً، هو جيمس توماس، من البقاء مستيقظاً مدة 266 ساعة و30 دقيقة (11 يوماً وساعتان و30 دقيقة).

وحتى رقم توماس لم يدم طويلاً، ففي الشهر التالي، سجّل رجل فنلندي يبلغ من العمر 51 عاماً، يدعى تويمي أرتورينبويكا سيلفو، رقماً جديداً، إذ قضى 276 ساعة (11 يوماً و12 ساعة) من دون نوم.

وفي عام 1967، كُسر الرقم القياسي مرة أخرى بواسطة تشارلز إي كريستنسن، ثم سجلت ربة المنزل الجنوب أفريقية بيرثا فان دير ميروي، البالغة من العمر 52 عاماً، آخر رقم قياسي في عقد الستينيات، بعد أن قضت 282 ساعة و55 دقيقة (11 يوماً و18 ساعة و55 دقيقة) من دون نوم في عام 1969.

ولا يُعرف سوى القليل عن التأثيرات الصحية التي عانى منها محطمو الرقم القياسي في الفترة من 1967 إلى 1969، بحسب أرشيف موسوعة غينيس، لكن الأمر بدا أكثر وضوحاً في عقد السبعينيات. 

سبعينيات الاختراق 

ففي عام 1974، حطّم مواطن آخر من كاليفورنيا يبلغ من العمر 23 عاماً الرقم القياسي، وهو روجر جاي، الذي ظل مستيقظاً مدة 288 ساعة متتالية (12 يوماً) في صالة عرض ذات أَسِرّة مائية، من دون أي منبهات بخلاف القهوة.

ووثّق جاي في سجله بموسوعة غينيس أنه "عانى من الهلوسة منذ هذا الاختبار الخطير للغاية".

وبعد 3 سنوات، سجّلت موسوعة غينينس أكبر اختراق في سباق الرقم القياسي للبقاء بلا نوم، وذلك عندما حطمت مورين ويستون، من كامبريدجشير بالمملكة المتحدة، الرقم القياسي بفارق كبير، وذلك بمشاركتها في منافسة للسباق على أطول مدة للجلوس على كرسي هزاز.

ودفعت ويستون الحد الأقصى لأطول مدة بقاء من دون نوم إلى وقت جديد غير مسبوق، يبلغ 449 ساعة (18 يوماً و17 ساعة).

ورغم أن أعراض الهلوسة بدأت في الظهور عليها قرب نهاية السباق، إلا أنها لم تتعرض لآثار صحية سيئة بشكل مفاجئ، حسب ما أورد أرشيف غينيس لعام 1978.

ثمانينيات النهاية 

في عام 1986، حطّم روبرت ماكدونالد، من ماريبوسا بولاية كاليفورنيا، رقم ويستون بقضاء 453 ساعة و40 دقيقة (18 يوماً و21 ساعة و40 دقيقة) مستيقظاً، وذلك عبر المشاركة في ماراثون الكرسي الهزاز أيضاً.

وعندما اقترب من نهاية محاولته، قال ماكدونالد، البالغ من العمر آنذاك 27 عاماً: "لم يكن الأمر سهلاً. كنت على شفا الانهيار، إذ واجهت صعوبة في الاحتفاظ بأي طعام"، مشيراً إلى أنه فقد جزءاً كبيراً من وزنه في أيام المنافسة وواجه صعوبة في تذكر الأشياء.

وخلال فترة بقائه مستيقظاً، قام ماكدونالد بأعمال عدة مثيرة ومحفوفة بالمخاطر، منها تسلق الجبال والقفز بالدراجات النارية، وهو ما وصفه بأنه "أخطر شيء قام به في حياته".

ولا يبدو أن ماكدونالد يعاني من أي آثار صحية سلبية طويلة الأمد، إذ استمر في عيش حياة سعيدة، ولديه الآن ابن اسمه روبرت الصغير، الذي بنى نسخة طبق الأصل لسفينة فايكنغ من 15 مليون عصا آيس كريم عام 2006، ليدخل عالم تحطيم الأرقام القياسية بموسوعة غينيس من بوابة أخرى.

أسباب التوقف

رغم تباين الآثار التي عانى منها محطمو الرقم القياسي لأطول مدة للبقاء من دون نوم، فإن قصصهم ترسم خلاصة واضحة مفادها أن عدم النوم ضار بجسم الإنسان وعقله.

وحتى المدد القصيرة من النوم يمكن أن تؤثر سلباً على صحتنا العقلية والجسدية حسب ما أثبتت الدراسات العلمية الأخيرة، ما دفع موسوعة غينيس إلى وقف تسجيل هذا النوع من الأرقام القياسية.

لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد، فخلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، اكتشف باحثو النوم ما يسمى بـ"النومات المصغرة"، وهي فترات نوم مؤقتة تدوم بضع ثوانٍ فقط، ويفقد فيها النائم الاستجابة لبعض المدخلات الحسية ويصبح فاقداً للوعي، ومن المستحيل رصدها من دون معدات تسجيل فسيولوجية مستمرة.

وإزاء ذلك، رجح ديمنت لاحقاً أن راندي غاردنر، الذي كان تحت إشراف طبي مستمر، ربما يكون قد غفى في نوبات نوم مصغر.

ثمة سبب ثالث لوقف موسوعة غينيس تسجيلها رقمَ أطول مدة للبقاء من دون نوم، وهو وجود أشخاص يعانون من الأرق العائلي المميت، وهو اضطراب وراثي نادر للغاية.

ويعاني ضحايا هذا المرض في البداية من مشاكل في النوم، ومع مرور الوقت يتطور الأمر إلى أرق كلي، ما يتسبب في الهلوسة والاضطراب في الكلام والخرف، ثم الموت في النهاية.

ولو أن موسوعة غينيس مستمرة في تسجيل الأرقام الخاصة بمدة البقاء من دون نوم، لكان من المحتمل أن يكون أحد ضحايا هذا المرض هو محطم الرقم القياسي.

يذكر أرشيف الموسوعة لعام 1983 أن الحالة الأكثر تطرفاً في هذا الصدد كانت لفالنتين ميدينا من كوينكا وسط إسبانيا، الذي ادعى أنه فقد كل رغبته في النوم".

ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان مدينا يعاني حقاً من الأرق التام، إذ ورد أنه لم يعانِ من أي آثار مرضية. ولم يكن من الممكن التحقق من ادعائه، وبالتالي لا يمكن منحه الرقم القياسي رسمياً.

قياس صعب

حتى لو جرى تجاهل ضحايا الأرق الكلي، فلا يزال من الصعب تحديد الرقم القياسي العالمي بدقة لأنه ليست لدى موسوعة غينيس طريقة لحساب حالات النوم المصغرة خلال محاولات التسجيل السابقة.

ويبدو من الصعب التحديد الدقيق للمدة التي يمكن للإنسان أن يمضيها جسدياً من دون نوم، فمن عام 1959 إلى عام 1986، ارتفع الرقم القياسي العالمي بشكل كبير من 8 أيام إلى أكثر من 18 يوماً.

ولم يُكسر الرقم القياسي لأكثر من 36 عاماً منذ ذلك الحين، ما يشير إلى أن الحاجز المستحيل تحقيقه قد يكون 19 يوماً.

ومع ذلك، إذا كان ماكدونالد وغيره من محطمي الأرقام القياسية قبله قد غفوا فترات من النوم المصغرة، فقد يكون الحد الأقصى الحقيقي لمدة الاستيقاظ من دون نوم تماماً أقل بكثير.

وفي المقابل، إذا كانت حالات الأرق الكلي المبلغ عنها، مثل حالة ميدينا، صحيحة، فيعني ذلك أنه من الممكن أن يمضي بعض البشر عقوداً من دون نوم.

المساهمون