لقاءات بجاية السينمائية... لا حدود بين الجمهور وصنّاع الأفلام

07 أكتوبر 2023
لم تكن الأفلام لتكتسب ذلك الزخم الكبير لولا جمهور بجاية (فرانس برس)
+ الخط -

 

رغم كثرة المهرجانات والأيام السينمائية في الجزائر، يبقى عددها قليلاً، ليس عدداً وعدّة، فهذا نسبي، بل من ناحية الفعل السينمائي الذي تفرزه العلاقة بين الجمهور وبرامج تلك الفعاليات، عادة. هذا معطى أساسي، يُمكن أنْ يُحلِّق بها عالياً، أو يُسقطها على الأرض.

هذا حدث في مهرجانات عدّة، تُوصف بأنّها كبيرة في الجزائر، خاصة تلك التي توقّفت وعادت مجدّداً في السنة الحالية، كما في النصف الثاني من العام المقبل، كـ"مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي"، و"مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي"، و"مهرجان الفيلم الملتزم"، التي عرفت في دوراتها السابقة اضطرابات وهنات رافقت معظم دوراتها، رغم الميزانيات المُعتَبَرة المرصودة لها، لكنّها لم تستطع نَسجَ علاقة بينها وبين الجمهور، والأخير طرف محوريّ لكنّه مُغيّب من هذه المعادلة، ولا يتمّ التفكير به كما ينبغي، لجذبه إلى قاعة العروض والورشات والنشاطات، أو لتطوير اهتماماته وحبّه للفن السابع. هذا كلّه بانتظار ما ستحمله الدورات المقبلة بعد توقّفٍ. حينها، ستُفهم العلاقة مجدّداً، بتفكيك معطياتها والوقوف عليها، رغم وجود مؤشّرات تُظهر بوضوح تواصل السلبيّات، وتوسّع الفجوة.

مناسبة كلامٍ كهذا متأتية من "لقاءات بجاية السينمائية"، المُقامة دورتها الثامنة عشرة بين 23 و28 سبتمبر/ أيلول 2023، بعد توقّف ثلاث سنوات بسبب كورونا. واللقاءات أقدم فعالية سينمائية في الجزائر، ويُميّزها عن غيرها أنّ الجمعية الثقافية "بروجكتور" تُنظِّمها بميزانية بسيطة، تُجمَع من مؤسّسات وهيئات مختلفة، عامة وخاصة. ميزانية هذا العام بلغت 700 مليون سنتيم، ما يعادل 50 ألف دولار أميركي، وهذا رقم بسيط، يكاد لا يُذكر، ولا يُقَارَن بما يُرصد للمهرجانات الأخرى. لكنّ الحصيلة التي تخرج بها قويّة جداً، بالأفلام التي تُعرَض، واللقاءات المباشرة بين المخرجين وصنّاع السينما والجمهور المتعطّش لـ"كلّ كبيرة وصغيرة".

في الدورة الجديدة هذه، عُرض 33 فيلماً: 18 فيلماً قصيراً، و5 أفلام روائية طويلة، و10 أفلام وثائقية، تُمثّل 14 بلداً من القارات الـ5. تقاطعت الأفلام مع ثيمة "السينما والمدينة"، الشعار الذي اختاره المنظِّمون ليكون المحور الجامع للأفلام المشاركة.

تبعد مدينة بجاية عن العاصمة 263 كيلومتراً. مدينة ساحلية، تُعتبر من الحواضر الثقافية والتاريخية المهمّة في الجزائر. مرّت فيها حضارات عدّة في تاريخها الطويل، ما شَكّل لدى أهلها وعياً حضارياً متنوّعاً. إنّها حاضنة "اللقاءات" مند تأسيسها عام 2003. سكّانها من الأمازيغ، يتحدّثون ويتواصلون باللغة الأمازيغية، التي ورثوها منذ آلاف السنين من الأجداد. واللغة هذه من أساسيات المنطقة وهويتها، وسكّانها يفتخرون بها إلى أبعد حدّ.

انعكست هذه القيمة الثقافية في أفلامٍ عدّة مشاركة، استخدمت الأمازيغية لغة تواصل وحوار، أو عكست عاداتٍ وتقاليدَ وهويةً تُظهر علاقة المنطقة بها، كالروائي القصير "أخَام يرغا، مقّار أَنسحمُو" (المنزل يحترق فلنتدفأ، 43 دقيقة) لمولود آيت ليوتنا (العربي الجديد، 18 يونيو/ حزيران 2023)، المشارك في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023) لمهرجان كانّ السينمائي (نصف شهر المخرجين)، إضافةً الى أفلام أخرى، كالقصير "بوسة" لعز الدين قصري، والوثائقي "أشويق، أغاني النساء الشجاعات" لإيلينا كاستلر.

المُلاحَظ في الأفلام الجزائرية الناطقة بالأمازيغية، أو تلك المُمَثَّلة في منطقة القبائل، والمشاركة في "اللقاءات"، حضور ثيمة الهجرة، وهذا يعكس حقيقة عاشها الأجداد والأحفاد، والجيل الحالي، ممن تركوا منطقة القبائل، وهاجروا من أجل لقمة عيشٍ، أو بحثاً عن فرصة أفضل لهم.

تجلّى هذا بشكل أوضح في الوثائقي "الإبحار في الجبال"، للبرازيلي ذي الأصل الجزائري كريم عينوز، الذي تناول علاقته بالوطن والمهجر، عبر أولى رحلاته إلى الجزائر، مُستحضراً ماضي والده، المولود في أعالي ولاية "تزي وزو"، قبل أنْ يهاجر إلى البرازيل ويستقرّ هناك. ثيمة تدعم بقوة مفهوم الهجرة.

المفاجأة المهمة التي قدّمها المهرجان للجمهور ولصنّاع السينما، تتمثّل بعرض الوثائقي "شوي لقلبي وشوي لربي" (القليل لقلبي والقليل لله)، المنتج عام 1993، والمُصوَّر في "وهران"، للسويدية بريتا لندوف (77 عاماً)، التي حضرت عرضه لأول مرة في الجزائر. أهميته كامنةٌ في تطرّقه وتوثيقه لفنّ المدّاحات في المدينة نفسها، في بداية العشرية السوداء، التي تبدّلت بسببها الخارطتين الأمنية والثقافية في البلد. هذا من الفنون التي بدأت تندثر.

لم تكن الأفلام لتكتسب ذلك الزخم الكبير لولا جمهور بجاية، المُرافق لكلّ فيلمٍ، خاصة أنّ المشرفين على "اللقاءات" ابتعدوا كلّياً عن الرسميّات، التي تعرفها فعاليات كهذه، مثل كلمات مسؤولي المؤسّسات الثقافية أو من ينوب عنهم، وكلمات المسؤولين المحليين. في "لقاءات بجاية السينمائية" كُسِرت هذه القاعدة المكرّسة في معظم الفعاليات، التي تُنظّم في بلدان عربية عدّة، وأعطِيَت الكلمة للجمهور، فقط، الذي حاور وناقش وأظهر ثقافة سينمائية كبيرة، ما أثار إعجاب الجميع.

استطاعت إدارة "اللقاءات"، وأوّلهم المدير الفني حكيم عبد الفتاح، القلب النابض لها، أنْ يضعوا برنامجَ عروض موزَّعا على 3 حصص: الثانية والخامسة بعد الظهر، والثامنة مساء. بين كلّ حصّة وأخرى، تجري مناقشات بين صنّاع الأفلام والجمهور، تتوقّف كلّها بعد أنْ يتجاوز الليل منتصفه، ليس لأنّ النقاش ينتهي، بل لأنّ المنظّمين يوقفونه، بسبب تعب الضيوف والمتطوّعين الذين ينامون يومياً ساعات قليلة جداً، والعاملين في قاعة "سينيماتيك بجاية" التي تُقام فيها التظاهرة.

مُهمٌّ أنْ يُذكر أنّ القاعة تكون مكتملة العدد، غالباً، في عروض الأفلام، وأحياناً هناك من يجلس على الأرض. كما نُظّمت عروض خارجية بالتزامن مع العروض الداخلية لاستيعاب الجمهور، الذي لم يتمكّن من دخول القاعة لامتلائها بكاملها. لا تنتهي تلك النقاشات في القاعة السينمائية، لأنّها تتجدّد صباح اليوم التالي، في أحد الأبنية التاريخية المُطلّة على الواجهة البحرية، في "متحف برج موسى"، القلعة القديمة التي بناها الاحتلال الإسباني في القرن الـ16، تجري فيها نقاشات وتُقام لقاءات الـ"ماستر كلاس".

هكذا تكون "لقاءات بجاية السينمائية" من أهم التظاهرات السينمائية في الجزائر، وأعمقها وأجداها، لأن منظّميها من عشّاق السينما وصنّاعها، يعرفون جيداً قيمة الجمهور والأفلام الجيدة التي تخلق فعلاً سينمائياً إيجابياً، وتساهم في خلق جيل من المخرجين والممثلين والتقنيين ومحبّي الفن السابع. هذا حدث في الأعوام الأخيرة، بعد أنْ تحوّل بعض روّاد "اللقاءات" من الجمهور إلى فاعلين في صناعة السينما.

المساهمون