لحظة العثور على منتخب ألمانيا

21 نوفمبر 2022
حارس مرمى المنتخب الألماني مانويل نوير في الدوحة (ألكسندر هاسنشتاين/Getty)
+ الخط -

يستحيل تحديد أوّل لحظةٍ تشهد، ذات يوم، أوّل علاقة شخصية بمباراةٍ لكرة القدم، رغم أنّ ذكرياتٍ متفرّقة عالقةٌ، إلى الآن، في ذاكرة فردية.

في 5 يونيو/حزيران 1976، يُغادر الشقيق الأكبر بيروت إلى فرنسا. وبعد أشهرٍ قليلة، ينتقل إلى بلجيكا لدراسة الطبّ. الشقيق الأصغر، "وارث" مقتنياته، يعثر على ملصقات وصُور كبيرة لمنتخب ألمانيا الغربية في كرة القدم، زمن "كأس العالم" عام 1974، بينها صُور لحارس المرمى سِبْ ماير، وللاعبين ينسى مواقعهم في المنتخب: فرانتس بيكنباور وبول برايتنر وأولي هونيس وغيرد مولر أبرزهم.

لألمانيا علاقة بالوالدة، ففي حياتها السابقة على التهجير القسري والسلخ العنيف من الإسكندرية (بدايات عام 1961)، زمن التأميم الناصري، تدرس الوالدة أعواماً طويلة في مدرسة الراهبات الألمانيات. إتقانها اللغة الألمانية أعمق بكثير من إتقانها اللغتين العربية والفرنسية، ولعلّ الأخيرة جزءٌ عفوي من ثقافة طبقة وسطى في اجتماع إسكندرانيّ "رائع"، حينها. لاحقاً، تعمل الوالدة في مصرفٍ بلجيكي، قبل انسلاخها من مدينتها المصرية، بعد نحو 30 عاماً على ولادتها فيها. الشقيق يُصبح بلجيكياً، ثم تلحق به الشقيقة الكبرى، في 25 أغسطس/آب 1990، لتُصبح، هي أيضاً، بلجيكية. الشقيق والشقيقة مولودان في الإسكندرية أيضاً.

معلومات شخصية لا أكثر، لكنّها تكشف شيئاً من أحوالٍ عائلية، وربما من صُدفٍ غير مفهومة. العلاقة بـ"ألمانيا" ناشئة منذ لحظة العثور على ملصقات منتخب ألمانيا الغربية في كرة القدم، قبل معرفة علاقة الوالدة بها. ألمانيا لا بلجيكا. لن أهتمّ بسبب ذلك. ألمانيا سابقةٌ على بلجيكا ولبنان ومصر. ألمانيا تحضر لاحقاً، أفلاماً وروايات، واطّلاعٌ على الفلسفة فيها مقتضبٌ، في سنة دراسية أخيرة قبل الجامعة تحديداً، وصناعة السيارات تأتي في وقتٍ متقدّم. لا خبرة لي في الفلسفة وصناعة السيارات. لكنّ عشق السيارات الألمانية يتساوى وعشق أدبٍ وسينما ألمانيّين. مع هذا كلّه، يحضر منتخب ألمانيا الغربية في كرة القدم، ومُرافقته ستكون طويلة، رغم كلّ شيء، ورغم أحقاد مشجّعي منتخبات وطنية أخرى، وبعضهم أصدقاء ومعارف، يمتلكون، كمُشجّعي منتخب ألمانيا الغربية أولاً وألمانيا بعد وحدتها (3 أكتوبر/تشرين الأول 1990)، ألف وسيلة لتقريع وشتم وسخرية من منتخبات منافسة، ومن مشجّعيها أيضاً.

هذا محفورٌ طويلاً في ذاتٍ وتفكيرٍ. أعوام الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وتلك اللاحقة عليها، غير متمكّنةٍ من إزالة شعورٍ بالتزامٍ ثابتٍ بمنتخب ألمانيا الغربية/ألمانيا. التزام غير واضحٍ تشكّله، لكنّ أسبابه أوضح من أنْ يُلغيها النسيان. شعور الوالدة بانسلاخها قسراً عن الإسكندرية شبيهٌ، إلى حدٍّ ما، بشعوري بانسلاخ الشقيق عنّي، في إحدى لحظات الجنون اللبناني. الالتزام مُتأتٍ من رغبةٍ في تعويضٍ، غير مفهومة الحاجة إليه. لكنّها (الرغبة) حاضرةٌ إلى الآن. متابعة المباريات كلّها للمنتخب الألماني، قبل إعادة التوحيد وبعدها، مرتبطةٌ بضرورة إكمال شيءٍ، سأتأخّر كثيراً في الاقتناع بانقطاعه، بل بانسحاقه أمام قسوة اللاحق، بالنسبة إلى والدةٍ غير مُتمكّنة، البتّة، من القبول بعيشٍ في مدينةٍ، لن تمنحها ذاتها وروحها وجسدها إطلاقاً؛ وبالنسبة إلى شقيقٍ، ستدفعه ظروف العيش في "المنفى" الاختياري إلى الانغماس في دراسةٍ وحياة وعائلة، بعيداً، كلّياً، عن الملعب والمنتخب، إلى حدّ أنّي، إلى الآن، غير مُتحدّثٍ معه عن تلك المرحلة، وعن علاقته بكرة القدم والتشجيع والمنتخبات، (ألمانيا أو بلجيكا، على الأقلّ) في منفاه.

عشقي للمنتخب الألماني منبثقٌ من حالةٍ لا علاقة لها البتّة لا بكرة القدم ولا بكأس العالم. إنّه شعورٌ بشيءٍ تفقده الوالدة، ويتخلّى الشقيق عنه. كأنّ الالتزام واجبٌ، رغم ما في الواجب من متعةِ تشجيعٍ وحماسته.

المساهمون