منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تنقل لنا عدسات الكاميرات أحداث الموت وأهوال عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. وترصد لنا العدسات أيضاً آلام الغزيين وعذاباتهم اليومية تحت الحصار وفي ظل القصف المستمر. لكن بين الموت والمعاناة، تعثُر لنا العدسات، أحياناً، على لحظات حياة. لحظات يحاول فيها الغزيون من مختلف الأعمار إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة باتت حطاماً.
قد نجد أحد الشباب يوثق يومياته على مواقع التواصل الاجتماعي خلال العدوان، بطريقة تجعل المتابعين له ينسون أن هذا الشاب في حالة حرب، فنراه في أحد مقاطع الفيديو التي نشرها يصوّر كيف يبدأ نهاره بشراء باقة ورد، ثم يذهب إلى أحد الحلاقين الذي نصب عدته في خيمة. بعدها، يكتب ورقة يضعها بين الورد، ويكمل مشواره إلى حيث يجد زوجته ويهديها الباقة. قد يقول قائل: هل يصلح الورد ما أفسدته الحرب؟ ربما تكون إجابة هذا السؤال ما قاله مرة الطفل قاسم، أحد بائعي الورد في غزة في حديثه لأحد المواقع: "الورد بجيب السعادة وأكثر إشي ناقصنا هو السعادة".
في غزة اليوم، لا توجد أرض مستوية نتيجة الدمار، لكن ذلك لم يمنع أحد الفنانين من نصب ميكروفون وسط ركام المنازل، حاملاً عوده وخلفه عُلّقت لوحة كتب عليها: "صامدون هنا رغم الدمار نغني وننشد الأشعار". يأمل هذا الفنان أن يعلو صوت الموسيقى على صوت آلات الحرب، وأن تكون أغانيه بمثابة فسحة ومتنفس لكل من أتعبه صوت أزيز الطائرات.
وسط الخراب وبين خيام النزوح، يلهو بعض الأطفال مستعرضين هواياتهم ومهاراتهم في عدد من الأنشطة الرياضية، مثل الباركور الشهيرة في غزة. مهارات تدربوا عليها وطوروها خلال الحصار، والآن يمارسونها في أضيق المساحات مع أقل الإمكانيات، تتملكهم الفرحة لحظات قبل أن يتملكهم الحزن لأشهر، ينتظرون دقائق الهدوء للعودة إلى اللعب ويأملون في كل لحظة لا قصف فيها أن تكون هي أطول لحظة.
يُعزي الغزيون أنفسهم بأنفسهم، ولهم في هذا العزاء وسيلة للمواساة والاستمرار في الحياة. فرغم كل الظروف، يواجه الناس آلة الموت الإسرائيلية بكل ما أوتوا من قوة. مواجهة ينتصر فيها الفرح أوقاتاً قصيرة قد لا تدوم، مثل مناسبات الزفاف المتواضعة التي أقيمت في عدد من مدارس النزوح وعلى الأنقاض وأمام الخيام. مناسبات أفرحت الناس ولو قليلاً، وأخبرت العالم أن هناك حياة مدنية في غزة مثل بقية الأماكن، ليس كما يصورها الاحتلال على أنها كلها بقع ومناطق عسكرية.
لم تقتصر محاولات فلسطينيي غزة على إنقاذ أنفسهم فقط في ظل القصف والنزوح، بل شاهدناهم يرأفون بالحيوانات ويحملونها معهم في رحلة نزوحهم. يبحثون لها عن طعام قبل أن يبحثوا عنه لأنفسهم، مثل أن تتجمع عشرات القطط حول شخص مسن اعتاد أن يطعمها، ولو كان معه كسرة خبز فإنه يقسمها على القطط بالتساوي. وهناك طفل بكى بحرقة على قطته التي بين يديه إثر إصابتها بالقصف، وامرأة بين جموع النازحين على وجهها ابتسامة بعد أن تمكنت من إنقاذ خمس قطط من حارتها قبل النزوح، وهي تعيش معها أينما أقامت.
يتغنى كثيرون بمدى صمود الناس في غزة، وينسجون لهم قصائد المديح ويتداولون أشعاراً قديمة تحكي عن مدى أهمية الصمود. لكن، لا أحد يحرس الناس في غزة من هواة الرثاء، هواة الثرثرة السياسية، هواة الغناء والضجيج وهواة الكلمات ممن يتكلمون عن غيرهم ويقررون عنهم، بينما كل ما يريده الإنسان في غزة هو حياة كالحياة العادية، حياة تشبه ما يفعله في دقائق الهدوء، حياة فيها من ضمن ما فيها الغناء واللعب والمناسبات، وفيها الأطفال يتعلمون ويلهون ويربون قططهم بأمان.