عن تحكيم مهرجانات السينما المغربيّة: مُجاملات لا استحقاقات وصداقات لا سجالات

20 يوليو 2022
نعومي واتس في افتتاج "المهرجان الدولي للأفلام بمراكش 2019" (دومينيك شارّيو/Getty)
+ الخط -

هناك ظواهر مُريبة تحدث اليوم في المَشهد السينمائي المغربيّ، لا يتحدثّ عنها أحدٌ. كأنّ الذي يحدث عادي ومَقبول في مُمارساته وسلوكه وتفكيره، باستثناء تدويناتٍ قليلةٍ، تتناثر هنا وهناك، وتعمل بخفّة على طرح أسئلةٍ حارقة، وتضغط على الجرح أكثر.

هذا حاصلٌ منذ نهاية تسعينيات القرن الـ20، مع انعطافةٍ كبيرة عرفتها السينما المغربيّة، في مفاهيمها وجمالياتها، كما في وسائطها البصريّة، وما يرتبط بها من مهرجاناتٍ ونقدٍ وصالات. فالجُرح غائرٌ، والناقد لم يعُد يقوى على مُجابهته، أو تكسير حدّته على أوضاع الصناعة السينمائية ومشاغلها. لم يعُد النقد المغربيّ يُمارس دوره كما ينبغي، باعتباره مُراقباً جمالياً للأفلام، كما كان الحال في ثمانينيات القرن نفسه. صمتٌ كهذا يُخرج النقد من الساحة الفنية، والتغييب المُتعمّد للناقد، يراه البعض ملاذاً لمُمارسة سُلطته على أفلامٍ ومُسلسلاتٍ، وعلى اختيار الأقرب إلى قلبه من صداقاتٍ وعائلاتٍ.

الأمر نفسه يحضر في مهرجاناتٍ سينمائيةٍ عربيّة، تحتلّ المصرية منها مرتبة الصدارة. لكنّ تأمّل الهشاشة التي تطبع مفهوم النقد السينمائي اليوم، يكشف أنّها عالمية، ولا ترتبط بالمغرب فقط. لأنّ التحوّلات المُتسارعة، التي شهدتها السينما في علاقتها بالوسائط البصرية والمنصّات الإلكترونية، همّشت سُلطة الناقد، وجعلت المُتفرّج يأخذ الكلمة للتعبير عن رأيه في وسائل التواصل الاجتماعي.

رغم أهميّة الرؤية، من حيث حرية التعبير وإثارة نقاشٍ بنّاءٍ، إلا أنّ ذلك لم يحدث في نقدٍ سينمائيّ مغربيّ، مُعطّل وقاصر على تغطية أحوال المهرجانات، رغم وجود أقلامٍ متينةٍ تُحاول المزج في كتابتها بين المعرفي والحميمي في مُقاربة العمل السينمائي. مشكلة النقد المغربيّ لا علاقة لها بتحوّلات النقد المعاصر فقط، بل مؤسّساتية، إذْ لا توجد مؤسّسة فنية أو مهرجانٍ سينمائي أو جمعيةٍ فنية تدعم النقد السينمائي، لمُعاينة أحوال مخرجٍ، أو مُرافقة ممثل أو مونتير، ومدى تجذّر ممارساتهم في الثقافة المغربيّة. فحال هذا النقد أنّه تجميع مقالاتٍ وحواراتٍ في كُتيّبات، باسم "النقد السينمائي"؛ والأخطر في تهميش الناقد أنّه يفتح الباب لتقافز الظواهر السلبية في المجال السينمائي، ومنها لجان تحكيم جوائز المهرجانات، والخلفيات المعرفية والجماليّة التي تدفع إلى اختيار أشخاص في لجان التحكيم.

لكنّ أغرب ما يحصل، أنْ تتحوّل لجان تحكيم المهرجانات إلى صداقاتٍ، من دون أيّ استحقاق، أو علمية نقدٍ وإخراج وموسيقى وتصوير، فيشعر الناقد أنّ الحاصل أمامه أشبه بمسرحية كوميدية، تسخر من تاريخ الفن في البلد، وأنّ تضحيات مخرجين ونقاد وموسيقيين أضحت معالمها في مهرجانٍ سينمائي مغربيّ محض سخرية وخرافة. هذا واقعٌ مُفبركٌ، يتستّر عنه مخرجون ومنتجون وممثلون ونقّاد ورؤساء مهرجاناتٍ؛ وإلا، كيف يُفسّر ذيوع ظواهر في مشهدٍ سينمائيّ مُرتبكٍ ومُتآكل، يتحوّل فيه مخرجٌ أو ناقدٌ أو رئيس جمعيةٍ مديراً لمهرجان سينمائيّ، يغدو (المهرجان) بمثابة راعٍ للسينما المغربيّة، وله حقّ تلافي أو اختيار برامج وأفلام وندوات وضيوف مُكرّمين، بعد قضائه أعواماً طويلة يتجرّع فيها مرارة فشله كمُخرجٍ أو ناقدٍ أو مُدرّس للسينما.

 

موقف
التحديثات الحية

 

هناك واقعٌ خفيّ أكبر من صورةٍ ورديّة، تبدو عليها هذه السينما في الخارج، رغم محاولات أسماءٍ قليلةٍ تعمل بجدارةٍ على تطهيرها من حمى الفوضى والمرض والاستغلال، الذي يستبدّ بميكانيزماتها ومُتخيّلها وآفاقها الجماليّة. مشكلة المهرجانات السينمائية أعمق بكثير من النقد نفسه، وتحتاج إلى تعرية أحوالها، وإلى نقدٍ يُفكّك ميثولوجياتها، وما فيها من أعطابٍ فنية وتناقضاتٍ جمالية، تسخر من الفن في البلد. إذْ كيف يجوز أنْ تتحوّل مهرجانات مغربية إلى أمكنةٍ سياحية، يعتبرها مخرجون ورؤساء مهرجانات مجرّد فترات راحة واحتفال، في وقتٍ ينبغي أنْ تكون فيه فضاءات لتشديد القول والنقد، ولمُشاهدة الأفلام ومناقشتها بين المهنيّين والمخرجين والنقاد؟ هذا غير حاصل نهائياً؛ وإنْ حصل، تُصبح ندواته دراسات في تاريخ الفكر وأنساقه الفلسفية الكبرى، بدعوى "فلسفة السينما"، مع أنّ الموجود عرضاً لا علاقة له بالأفكار والنظريات التي تُطرح.

بعض لجان تحكيم الجوائز تجد، في تدخّلات أكاديميين، ذريعة لتبرير الجهل تجاه الأفلام. فالحاصل أنْ لا أحد يعرف ما يحصل أمامه أصلاً، لأنّ مفهومه للسينما قديمٌ، قِدَم أفكار وتصوّراتٍ يُدافَع عنها، وغير مُكترثٍ بأيّ جديدٍ مغربيّ، يجتهد في طرح أسئلةٍ جمالية، تتعلّق بجرأة الموضوع وفتنة الشكل، وبمدى قُدرة مخرجٍ على تشرّب تاريخ الأساليب البصرية، عاملاً على خلقِ جديدٍ يُعوّل عليه سينمائياً.

لا يوجد رأيٌ نقديّ شجاعٌ عن هذه اللجان، التي من دون صوتٍ أو وجهٍ أو ملامح، لأنّ كيفية اشتغالها تقليدية وبيداغوجية وفقهية، وتُفكّر في كتابة توصياتٍ ساخرةٍ، أو إشاداتٍ عن أهمية فيلمٍ بعد عرضه وتجوّله في مهرجانات سينمائية عالمية. وما يُصدِّع عمل اللجان أنّ الذين يُعيَّنون في إدارات المهرجانات، يُفكّرون بمنطق القبيلة والعشيرة، أي بنُظم تفكيرٍ بدائية، لا مكان أو حيّز صغيراً في حياة معاصرة، ترنو إلى الحداثة، وتتطلّع إلى تحقيق عبورٍ إلى ما بعدها، كحال التجربة الفنية الغربية.

المساهمون