تتنوّع الانتهاكات بحق الصحافيين في لبنان، من استدعاءات وملاحقات قضائية وتهديدات واعتداءات، لكنّها تلتقي كلّها على هدفٍ واحدٍ: تكميم الأفواه، وإسكات الأصوات التي تدافع عن قضايا المجتمع وتفضح ملفات الفساد.
ولم يتراجع لبنان فقط في مؤشر حرية الصحافة في الفترة الأخيرة، بل سجّل أيضاً سقوط نقابة المحامين في امتحان الحريات، بعدما قيّدت ظهور المحامي الإعلامي في الاستحصال على إذن مسبق من النقيب، في منحى صنّف على أنّه مقلق وخطير، خصوصاً أنه يتلاقى مع استهداف الأصوات الحرة المعارضة للمنظومة التقليدية.
وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، تقول الباحثة في مركز سكايز للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية في لبنان، وداد جربوع، لـ"العربي الجديد"، إنّ واقع الحريات الصحافية في لبنان "لم يلحظ أي تحسّن"، مؤكدةً أن ذلك "ليس مفاجئاً في ظلّ الاعتداءات والملاحقات القضائية التي تطاول الصحافيين، والتهديدات التي تتخطى العالم الافتراضي".
وتتوقف جربوع عند ما حصل مع الصحافي حسن شعبان، في أغسطس/آب 2022، حيث اعتُدي عليه بالضرب، ووضعت رصاصة على زجاج شبّاك سيارته المركونة أمام منزله من قبل مناصرين لـ"حزب الله"، وذلك إثر تغطيته تظاهرة في بلدته بيت ياحون في جنوب لبنان احتجاجاً على انقطاع المياه.
وتتوقف جربوع أيضاً عند الاعتداءات التي طاولت مؤسسات إعلامية اعتراضاً على بعض البرامج، كما حصل مع تلفزيون الجديد والمؤسسة اللبنانية للإرسال (LBCI)، ووصل إلى إطلاق النار.
كذلك، سجلت، وفقاً لجربوع، حالات تحريض عدّة، وارتفاع حدّة خطاب الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يترجم اليوم بشكل خطير على الأرض أيضاً. في الوقت نفسه تستمرّ الشكاوى والاستدعاءات والتحقيقات التي تطاول الصحافيين، وتحتّم عليهم المثول أمام سلطات أمنية وقضائية غير مخولة، بينما الصلاحية تعود لجهة واحدة هي محكمة المطبوعات.
ولفتت جربوع إلى تسجيل شكاوى عدّة مقدمة من شخصيات سياسية نافذة ضد صحافيين، فكانت الملاحقات القضائية والاستدعاءات بحقهم، في وقتٍ ينبغي لها أن تقبل الانتقاد باعتبارها شخصية عامة.
وتذكر جربوع أيضاً التضييق الحاصل على التغطيات الإعلامية في المناطق الخاضعة للنفوذ الحزبي، كما في جنوب البلاد، حيث مُنع صحافيون من الاقتراب أو تصوير أو تغطية مجموعةٍ من الأحداث، من ضمنها اعتداءات من جهات رسمية وأفراد حزبية أو مناصرة للأحزاب لها مركز قوة في المنطقة أو البلد.
تبعاً لذلك، تقول جربوع إن الانتهاكات اختلفت وتنوعت هذا العام، لكن النسبة الأعلى تذهب إلى الاستدعاءات التي بلغ عددها 18، وترافقت مع تهديدات طاولت الصحافيين المشمولين بها، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو رسائل مباشرة لهم.
وتشير جربوع إلى أن واقع الحريات يشهد تراجعاً، ليس فقط على صعيد الصحافيين، بل كل من يتولى الدفاع عن قضايا المجتمع ويفضح الملفات أمام الرأي العام، وهو ما طاول أخيراً نقابة المحامين في بيروت التي فرضت الإذن المسبق لإطلالات المحامين.
ولفتت إلى أن النقابات "تمثل السلطة السياسية وتستكمل دورها في تكميم الأفواه وقمع الأصوات الحرة، واستهداف كذلك المؤسسات الإعلامية المستقلة"، مشيرةً إلى استعداء المؤسس المشارك في منصة ميغافون، جان قصير، ورئيسة تحرير موقع مصدر عام، لارا بيطار، إلى التحقيق
بدورها، تقول مديرة البرامج في مؤسسة مهارات، ليال بهنام، لـ"العربي الجديد"، إنّ العائق الأكبر أمام ممارسة الصحافيين لعملهم هو "الملاحقة الجزائية ودعاوى القدح والذم التي يتعرضون لها، ولاسيما عندما نتكلم عن الصحافة المعمقة والتحقيقات الاستقصائية أو تلك التي يتم فيها نقد الشخصيات العامة".
ومن التحديات التي تتوقف عندها بهنام، "صعوبة الوصول إلى المعلومات، والتقصير في التواصل العام للإدارات العامة وعدم قيامها بالنشر الحكمي، ممّا يجعل متابعة القضايا المتعلقة بالحوكمة والمساءلة أمراً صعباً، نظراً لعدم قدرة الصحافيين من الإفادة بالمعلومات التي تمكنهم من متابعة ملفاتهم".
وتضيف بهنام: "الخطاب السياسي يشكل تحدياً أيضاً، فكما بيّنت مهارات في كل دراسات الرصد، يبنى هذا الخطاب على إثارة المشاعر بدل الأدلة أو الوثائق، ممّا يجعل التحقق من المعلومات غير ممكن ويزيد من البروباغندا والمعلومات المغلوطة، كذلك يصعب متابعة مناقشة السياسات العامة، نظراً لسرية مناقشة القوانين داخل اللجان النيابية". كذلك تلفت إلى "عدم وجود أي أطر قانونية لحماية الصحافيين ومصادرهم".
ترى بهنام أن الصحافة تحتاج إلى قوانين جديدة تحمي الصحافيين ومصادرهم وتمنع الملاحقات الجزائية وتحول القدح والذم إلى مسؤولية مدنية، كما تحتاج إلى حوافز لدعم الإعلام المستقل الذي يقدم خدمة عامة، إضافة إلى قوانين تشجع الابتكار وتلغي القيود على تأسيس مشاريع إعلامية ناشئة تصل للشباب وتعطي صوتاً لجميع الفئات وليس فقط لخطاب السياسيين التقليديين.
ولفتت إلى ضرورة تفعيل قانون الوصول إلى المعلومات، "لتتوفر المعلومات والبيانات التي تمكن الصحافيين من المتابعة المعمقة لملفات الفساد، فضلاً عن قانون استقلالية القضاء لمتابعة ما يكشفه الصحافيون".
من جهتها، تقول رئيسة جمعية ماب (إعلام للسلام) ومديرتها التنفيذية، فانيسا باسيل، لـ"العربي الجديد"، إن هناك تراجعاً مقلقاً لحرية الصحافة، خصوصاً منذ انتفاضة أكتوبر/تشرين الأوّل 2019، وتصفه بأنّه "أمرٌ معيبٌ بحق لبنان الذي كان قدوة للحقوق والحريات في العالم العربي".
وتشير باسيل إلى أن أبرز الانتهاكات التي تسجل بحق الصحافيين هي الاستدعاءات والتوقيف من جانب الأجهزة الأمنية.
وتشدد باسيل على أنّ "منظمات المجتمع المدني تدافع عن حرية الصحافة وترفض هذه الانتهاكات رفضاً قاطعاً"، مؤكدةً على "رفع الصوت ضد هذه الأساليب والممارسات، حتى يعود لبنان ويتربع في الصدارة من حيث الثقافة والحريات والانفتاح".
وترى باسيل أن الصحافة في لبنان تحتاج إلى "استقلالية سياسية ومالية، ونقابة جدية تحفظ حقوق الصحافي، وضمانات وظيفية وأمنية، وتعديل قانون الإعلام ليتماشى مع التطورات التكنولوجية والمعايير الدولية، ووقف الاستدعاءات والتوقيفات المجحفة والمعيبة بحق الصحافي، التي من شأنها أن تحدّ من حريته".