لبنان الانهيار: شرذمةٌ في الإعلام أيضاً

03 سبتمبر 2021
مشكلات اللبنانيين اليوميّة لا تتيح لهم أن يتنفسوا كي يفكّروا بغدهم (حسين بيضون)
+ الخط -

عند البحث عن أجوبة عن مئات التساؤلات التي تمر في بالك حول لبنان حالياً، يبدو من البديهي متابعة نشرات الأخبار والبرامج الحوارية، إلا أنّك تنتهي بمزيدٍ من الأسئلة، بينها: "هل هؤلاء يتحدثون عن نفس البلد؟ هل هذا إعلام أصلاً؟ وأين تكمن الحقيقة؟". فتماماً كما هي الحال في القطاع منذ أكثر من عقد، تختفي المعلومة من وسائل الإعلام اللبنانيّة وتحلّ مكانها محاولات تبرير، أو "فضح"، أو لفلفة لعشرات الفضائح والأزمات التي تملأ البلد بشكل يومي، وسط انتفاءٍ للحريّة والاستقلاليّة، واستبدالهما بالادّعاء.

تعصف "الأزمة" و"الانهيار"، بحسب التعبير اللبناني الشعبي لما يحصل من أحداثٍ متسارعة، بكلّ قطاعٍ وفردٍ في هذا البلد، كلّ بشكلٍ مختلف، لكنّها تتقاطع في الشعور بالإذلال والغضب والسخط الدائم، كما أنّ نتيجتها واحدة: تدمير مستقبل كلّ مقيم على هذه الأراضي، وشرذمتهم وتفرقتهم كلّ لحظة، إن عبر الخطاب السياسي الطائفي التقسيمي الرائج حالياً وما يترتّب عليه من أحداثٍ أمنية، أو عبر ارتفاع الأسعار وشحّ الموارد والسلع والخدمات، ما يحول دون التلاقي بين أهلٍ وأصدقاء، ويمنع القدرة على الترفيه والتظاهر. 

على الأرض، تستطيع رصد الأزمة التي تستفحل يومياً بوضوح: شوارع ومنازل مظلمة، أشخاص يتشاجرون أو يشتمون، محال وأعمال أغلقت، طوابير بنزين وغاز ومازوت، طوابير خبز، شحّ دواء، نقص مياه، انقطاع الاتصالات والإنترنت، ازدياد الجرائم... والكلّ يتحدثون عن الأمر نفسه، عن مشكلاتهم اليوميّة التي لا تتيح لهم أن يتنفسوا كي يفكّروا بغدهم حتى. لكن على الشاشة، المشهد مختلف. ترد الأخبار حول التوترات الطائفية، حول الطوابير والأزمات والشحّ في السلع واختفاء الخدمات، لكنّها تنطلق في صياغتها ومقارباتها من ما يقوله المسؤولون، وليس ما يعانيه المواطنون؛ فتعكس اللغة المستخدمة مواربةً وتبريراً وحتى تحريضاً. طبعاً، لا عزاء للاجئين والعمال الأجانب، ولا اهتمام بما يحلّ بهم (كونهم يدفعون الثمن الأكبر للأزمة)، فهم في نظر الإعلام "مسبّب" لها، أو بالحدّ الأدنى، مع المواطنين اللبنانيين الفقراء "أضرار جانبيّة" فيها. وبين الفقرات والبرامج والحوارات، يتعمّق خطاب "نحن" و"هم"، ويتمّ تبادل الاتهامات بالمسؤوليّة عن جرائم يوميّة تُمارس بحقّ من يعيشون في هذا البلد، لكن لا يظهر أنّ أي طرفٍ يُخطئ. كلّهم "حاولوا" ونحن (الشعب) فقط "فشلنا".

ليس هناك من يحاول أن يجمع، والكلّ ينجح في التفريق، فيما تتكفّل كارتيلات الاحتكار والأوليغارشيّة في الشرذمة، في خطّة محكمة من سلطةٍ اعتادت التنكيل بشعبها على مرأى العالم

في مقدّمات نشرات الأخبار، كلّ طرفٍ ينتصر يومياً، ولا أحد يئنّ. وتقليد مقدمات نشرات الأخبار هذا، لبنانيّ بحت، تقوم فيه كلّ قناةٍ بعرض موقفها، أو موقف مموّلها والجهة التي تتبع لها، من الأحداث، عارضةً ما حصل خلال اليوم بشكلٍ يقرب إلى الهزليّة ويبتعد عن المهنيّة، ويكون الهدف واحداً: لوم الطرف الآخر والتصويب عليه. فإن فتحت قناةً تابعة لـ"محور الممانعة" تجد الولايات المتحدة الأميركيّة فارضةً حصاراً محكماً على لبنان "لأنّه ناجح ومقاوم وعظيم"، فيما إيران والنظام السوري "طوق نجاة". وإن فتحت قناةً معارضة لـ"العهد" (يمثله رئيس الجمهورية ميشال عون) أو "حزب الله" تجد الأخيرين سبباً وحيداً في ما يحصل، فيما أميركا ودول غربية أخرى تحاول المساعدة "من دون أن يسمح هؤلاء لها". وإن فتحت قناة الدولة الرسمية الوحيدة، فستجد عالماً آخر ليس فيه سوى تصريحات المسؤولين والسياسيين ورجال الدين، فيما لا شعب ولا مقيمون ولا من يحزنون على هذه الأرض. قطعاً، كلّ الأطراف مشاركة ومساهمة في ما وصل إليه البلد ومن فيه، لكنّ هذه الصورة ممنوعة من العرض في إعلامٍ بعيدٍ عن الاستقلاليّة والحقيقة، أو الحريّة والحقوق

إعلام وحريات
التحديثات الحية

هذا الحال ينسحب على البرامج، لكنّ هوّة "نحن" و"هم" تتوسّع فيها، خصوصاً مع اتخاذ قنوات صفّ سياسي، أو مصرف، أو دولة خارجيّة، وابتعادها جميعاً عن صفّ الناس، وصوتهم، ومعاناتهم. ليس هناك من يحاول أن يجمع، والكلّ ينجح في التفريق، فيما تتكفّل كارتيلات الاحتكار والأوليغارشيّة في الشرذمة، في خطّة محكمة من سلطةٍ اعتادت التنكيل بشعبها على مرأى العالم، ومستعدّة لأن تفعل كلّ شيء إلا أن تغادر منصبها. يختفي التحليل، ويسود الهراء. تشحّ (أو تختفي) المتابعات من خارج بيروت مع اختفاء الوقود، وانقطاع الاتصالات، وزيادة البطش الأمني والتوجّه اليومي نحو العسكرة والإسكات، فلا يعرف أحدٌ عن مصائب تتراكم فوق أهل البقاع والشمال والجنوب، ومن دون أن يهتمّ كثيرون أصلاً.

تشارك في هذا المشهد فضائيات عربية وأجنبية، تدعم طرفاً دون آخر، وتحرّض طرفاً ضدّ آخر. ولا ترد الأخبار وتحليلاتها أو محاولات صنع رأي عام شعبي موحّد ضدّ سلطة توحّدت على قتله ونهبه، إلا في بعض وسائل الإعلام الرقمي المستقل الناشئة حديثاً نسبياً. أما الصحف والإذاعات، فلم تُبقِ الأزمة الماليّة التي ضربت الإعلام قبل لبنان منها الكثير، فيما الباقية مقسّمة على الأطراف الفاعلة في تأزيم الأوضاع يومياً.

يختفي تماماً صوتُ المطالبين بالعدالة والحريّة والمدنيّة

وسط كلّ ذلك وارتفاع حدّة الاستقطاب، لا تجد مصدراً واحداً لأيّ خبر، أو من يُجمع على ما حدث، فما حصل بالنسبة لوسيلة إعلاميّة يختلف (كثيراً) عمّا حصل بالنسبة لأخرى. لا موثوقيّة يستطيع الجمهور الاستناد إليها، ولا منصّة تستضيف آراء متناقضة أو حواراتٍ بنّاءة وبعيدة عن الانخراط في خطّة التقسيم هذه. ليس هناك من يتابع ما يحصل لـ"الضحايا" (كلّ يومٍ هناك ضحايا جدد)، ولا مساهمة في محاسبة سلطة قتلت شعبها وتزيد من بطشها يومياً، بل فقط توجيهات سياسيين ورجال أعمال ودين. هذا فيما يختفي تماماً صوتُ المطالبين بالعدالة والحريّة والمدنيّة.

في "لبنان الانهيار" ليس هناك من يحكي قصص الناس، ولا من يريد سماعها. خلال السقوط الحرّ إلى القعر هذا، لا يبدو أنّ هناك مجالاً لسماع صراخ ومناجاة المحكوم عليهم بالموت لأنهم عاشوا وحلموا وكبروا وبقوا هنا... تألّموا بصمت، ليس هناك أيّ اكتراث لآهاتكم.

المساهمون